تطل علينا بثينة العيسى من جديد برواية قصيرة Novella، عن أستاذة الفولكلور "خولة سليمان" التي تحيا فى عذابات تناقض واقعها مع مُثلها وأفكارها، تلك العذابات التي تتجسد فى أولادها الثلاثة الذين، بينما يعاني كل منهم من عقدة نفسية مختلفة، لا يفكر أحدهم فى كيف كان وقع الحياة ومصائب الدهر على والدتهم المسكينة.
حدث واحد، مقابلة تليفزيونية واحدة تغير مصير الأسرة، وتزيد على اضطرابها اضطراب. فحين تخرج الدكتورة خولة سليمان على الجماهير لتعلن بكل صراحة عن رأيها فيما وصلت اليه العقول من تدهور وانحطاط، وعن رأيها فى انمساخ الهوية وتأثير الحداثة على شباب الاجيال الجديدة، وان الجماهير لا تستطيع انقاذ نفسها ويجب ان تساق الى مصلحتها رغما عنها كالبهائم.. وبعد ان تم تكفيرها من الاسلاميين، واتهامها بالسلفية الفكرية من قبل الليبراليين، واختزال لقاء الساعة الى مقاطع فيديو لا تتعدى ال ٣٠ ثانية و"ميمزات" وملصقات كاريكاتيرية؛ تصبح الحياة بينها وبين أولادها لا تطاق.. فهم يشعرون بالعار من والدتهم، وهي تشعر بالخذلان من هروبهم منها وتخليهم عنها
ابنها البكر يتنصل من كل ماهو ليس أمريكي او غربي
وابنها الاوسط يشعر بالاستحقاقية لكونه لم يتنصل من أمه، و قام بالاضطلاع بمسئوليات البيت بعد وفاة أبيه، وهذه الاستحقاقية تحوله إلى مسخ أناني يحاول ترويض والدته الأستاذة الجامعية وانتزاع الامتنان منها انتزاعا.
اما ابنها الأصغر، فهو خير مثال على الجيل الجديد، الذي نشأ وسط صراع بين الهويات، لا يعرف لنفسه أرضا فكرية ينتمي إليها ولا يشغل باله بمحاولة الانحياز، هو يريد استغلال لحظته الحاضرة بأي طريقة، والابتعاد عن كل ما يحاول جره إلى ساحة القتال.
تصف بثينة العيسى مشاعر كل من الأم وأبنائها بلغة بديعة وجمل من قوتها تنفذ إلى القلب مباشرة. أجدني اقرأ الفقرات مرتين وثلاثة من اعجابي بها وببراعة وصفها للمشهد.
لا تصف مشاعر خولة وحدها، ولا تعرض وجهة نظرها وحدها، بل وجهة نظر أولادها أيضا
فتجد خولة إنسانة كغيرها من البشر، تعيد التفكير فى آرائها وتخطئ وتصيب، تعترف بكونها أخطأت فى تجربتها الأمومية الأولى، ولكنها لا تستطيع الاعتراف بذلك جهرا، لازال بها شئ من الكبر أن تركها ابنها وفضل العيش بعيدا عن حضنها عقابا لها على خطأها
وتجد ناصر، ابنها البكر، برغم هيئته الضخمة وادعاؤه الثقة والعصرية، لا يزال طفلا متأثرا بجراحه التي أحدثها خروجه صغيرا من المدرسة التي يحبها بقرار أمه، بدون تفسير او محاولة لاقناعه بأسبابها.
القصة فى مجملها عرض لصراع الأسرة التي تعيش فى وقتنا المعاصر، وتحتوي على ثلاثة أجيال لكل منهم طريقته فى رؤية الحياة، والتعامل مع واقعه
ولكنها تحديدا تقوم بتركيز الضوء على مشكلة افتقار العقول الى الوعي بأهمية الثقافة والتراث، وما يؤدي له هذا النقص من تدهور لرقي الأخلاق والأفكار والاسلوب
جماهير تقلب وجوهها عندما تسمع اسماء مثل "نيتشه" و "هيغل" و "الجابري" ، وتتبنى السخرية بدلا من محاولة فهم الفلسفة خلف هذه الأسماء، والتي أضافت الكثير للجنس البشري
يتخذون من المصطلحات الفكرية مادة للاستهزاء والتندر، يدارون بها جهلهم وخوائهم الفكري.
ما أسهل أن يسخر المرء مما يجهله، وما أسهل أن يعلو صوته حين يكون جاهلا متخلفا لا يملك حجة، ولا يملك سوى صوتا جهورا ولسانا فظا.
هدية جميلة من بثينة العيسى، اوجزت فيها الفكرة والمعضلة، وأثارت السؤال لتتركه كعادتها، بلا إجابة.