مراجعة رواية ذبابة بشرية
" هناك العديد من الناس الذين يمرُّون بشيءٍ مؤلم وصادم في فترة ما من حياتهم ولا يستطيعون تجاوزه أبداً، فيصبحون ذباباً بشرياً، ويقضون الباقي من حياتهم نوعاً ما وهم يدورون حول ما حدث لهم مثلما يدور الذباب"....
رواية ذبابة بشرية، للكاتب والمؤرِّخ النرويجي (هانز أولاف لهلوم) عدد الصفحات٣٨٤، نشرت الترجمة عن دار العربي للنشر عام٢٠٢٣.
نبذة عن العمل (لا تحتوي على حرق لخط اكتشاف الجريمة):
_لم يتوقع مفتِّش الشرطة (كولبيورن كريستيانسين) -والذي عُرِف لاحقاً بلقبk2- أنَّ يوم الخميس الموافق الرابع من أبريل عام ١٩٦٨ سيشهد انطلاقة من المستحيل أن تُنسى في تاريخه، وأنَّ ليلة اليوم المذكور ستحمل في طيَّاتها جريمة قتل رجلٍ مهم، وأنَّه -بطريقةٍ أو بأخرى- سيتولَّى بنفسه مهمة اكتشاف خبايا تلك الجريمة.
_(هارالد أوليسين) الرجل الذي قضى نحبه في عمر الثالثة والسبعين عن طريق رصاصة لا تُخطئ هدفها. لم يكن هارالد في عام ١٩٦٨ من نخبة المشاهير، ليس وقد مرَّ على تقاعده من وزارة وعضوية مجلس الدولة ثلاثة أعوام- لكنَّه كان كذلك في ماضيه، الماضي الذي لاحقته ظلالُه حتَّى أردته قتيلاً في شقته ببناية ٢٥ شارع كريبس.
_كان (هارالد) بطلاً من أبطال وقادة المقاومة في الماضي، في الحرب التي لا نحتاج الآن لذكر تفاصيلها، لكن يكفينا أن نشير لمن تخونه ذاكرته أنَّ وقتها كانت النرويج في حرب ضروس مع النازية الألمانية. والآن، وبعد مرور أكثر من عشرين عام على تلك الحرب، وبعدما تابع (هارالد) حياته كرجل حربٍ شهير ينال احترام كلّ من يعرفه؛ ما الذي قد يدفع أحدهم لقتله في شقّته وهو في مثل هذا العمر مع تاريخه الحافل بالبطولة؟.
_كان من الطبيعي أن يدور ذاك السؤال في ذهن كلّ من علم بالجريمة؛ مَن ولماذا قد يفعلها؟ والسؤال الأهم: من الذي استطاع أن يتسلَّل إلى الشقة وينفَّذ تلك الجريمة ثم يخرج دون أن يراه أي شخص، بما فيهم حارسة البناية والتي تسجِّل بمواعيدٍ دقيقة حركة الدخول والخروج من المبنى؟!...يبدو أنَّ ما كان ينتظر المفتش (كريستيانسين) في ٢٥شارع كريبس ليس -فقط- جريمة قتل غامضة؛ بل ومجرمٌ مناور من الدرجة الأولى، سيكلِّفه الوصول إليه بحثاً مضنياً.
تعقيب (قد يحتوي على بعض الحرق):
** أولاً تعقيبٌ عام:
_بناية سكنية من ثلاثة طوابق، تضم شققها سبعة جيران وطفل رضيع، وقصص لا نهاية لها من الماضي، وبذور انتقامية زُرعتْ في تربٍ خصبة. الجميع يصلح لأن يكون قاتل، الجميع لديه الغاية، البذرة، لكنّ شخصٌ واحد حرص على مدار أعوامه الأخيره على ريّ بذرته حتَّى نمتْ، وتغذَّت، وأينعتْ ثمرتها على هيئة جريمة قتل!
حسناً، من البداية ويساورني اعتراض على جعل قاطني البناية -فقط- هم المشتبه بهم، لا أنكر أنَّ الكاتب بذل جهوداً للخروج من هذه الدائرة، لكن بقيت كل أصابع الإدانة تشير للجيران الستة للضحية في غالبية الأحداث.
_لقد جمع الكاتب شخصيات بماضٍ مشترك حدَّ التشابك في بناية سكنية واحدة وجعل هذا الأمر يتم على سبيل الصدفة، الصدفة فقط، بالطبع إذا استثنينا القاتل الحقيقي الذي جاء لغرضٍ واضح، ولن أنكر أنَّ ذلك أصابني بإحباطٍ كبير…لطالما تمنَّيتُ طيلة القراءة أن تكون الشخصيات كلّها قد اتَّفقت على تنفيذ الجريمة؛ كان ذلك ليقنعني أكثر من أن تقول لي أنَّ الابن، والعشيق القديم للشقيقة، واللاجئة الصغيرة الهاربة كلِّهم قد قطنوا نفس المبنى دون ترتيب مسبق…القدر ملئ بالمصادفات نعم، لكنَّ مثل تلك الصدف -بالنسبة لي على الأقل- فاقت حدَّ الاحتمال.
_تُقدَّم الرواية على أنَّها بطولة المفتش k2 لكنّي أحب إعطاء كلّ ذي حقٍ حقه، رغم إعجابي بشخصية (كريستيانسين) إلَّا أنِّي أعجز عن ألَّا أراه بطلاً ثانياً، أما البطولة الأولى فهي للعبقرية (باتريشيا) التي اكتشفتْ جل ملابسات القضية، إن لم يكن كلّها.
_من بداية قراءتي للعمل، ورغم علمي أنَّ الترجمة حديثة…بل في واقع الأمر هي إنتاج العام الجاري؛ إلا أنَّني كنتُ أودُّ الوقوف على معلومة واحدة وإجابة لسؤالٍ وحيد: متى كتب (هانز) هذا العمل؟…لأنَّ الإجابة كانت ستؤثِّر -بكلّ تأكيد- على عدَّة انطباعات تكوَّنت لدي فيما يخص الحبكة، وقد أعطاني هانز -بنفسه- الجواب في اختتام الأحداث؛ لقد أنهى كتابة العمل عام ٢٠١٠…أبكر بكثير مما توقَّعتْ! ونعم؛ سيؤثِّر هذا -وبشدَّة- على رأيي الشخصي.
_من المفترض بي الآن أن أشرح تأثِّري؛ كما قلتُ سابقاً فإنَّني اعترضتُ على طريقة تجميع الشخصيات معاً بدافع الصدفة، وأزيد عليه أنَّني اعترضتُ -جداً- على طريقة "إخفاء" القاتل…لأنَّني -كقارئة على الأقل- استطعتُ أن أضع يدي عليه بمجرَّد أن انتهى (كريستيانسين) من مقابلة كلّ جيران الضحية، ولا أدَّعي أنَّ ذلك جاء لذكاءٍ شديدٍ منَّي؛ بل لأنَّها الفكرة الرئيسية التي قد تراود من اعتاد على مطالعة هذا التصنيف بمجرَّد أن يُقدَّم له ذاك "الجار المجرم" بالطريقة التي قُدِّم بها. إنَّها تفصيلة من كثرة استخدامها بات من السهل تخمينها؛ ولأجل ذلك قلتُ أنَّ تاريخ الكتابة سيفرق معي؛ لأنَّك لن تستطيع إطلاق لقب "كليشيه" على شيء هو -بالفعل- قديم. لقد صيغت أحداث العمل في عام١٩٦٨، وكنتُ أتمنى أن يكون تاريخ كتابتها قريبٌ من ذلك حتَّى أغفر ما سبق وذكرته.
**ثانياً: تعقيب على نقاط القوَّة:
_يستطيع هانز أن يطرح المعلومة التي يريدها في الوقت الذي يريده. دون أن يشعرك أنَّ جرعة المعلومات التي سقاها لك آنفاً قد تمَّ بتر جزءاً منها، جزء مهم، وتلك نقطة تُحسب له؛ لأنَّك -مع تخمينك الصائب ومع يقظتك طيلة القراءة- ستجد -دوماً- نقاطاً غفلتَ عنها سهواً.
_الربط بين الحرب التاريخية -الحقيقية جداً- وبين أحداث الرواية البوليسية -التي كلّها من أوَّلها إلى آخرها من نتج خيال الكاتب- هو شيءٌ يستحق الثناء بالطبع، وهو شيء لا يقدر على إنجاحه أي أحد. أن تستقي قصةً بوليسية درامية إلى حدٍ كبير من ذكرى كتلك أمرٌ لن يبرع فيه الكثيرون؛ لكن هانز فعل.
_كان بوسعي أن أقول انَّ الشخصيات تشابهت مع بعضها أثناء ذكري لنقاط الضعف، لكن لا؛ أنا أرَ أنَّ تشابههم يصلح لأن يكون نقطة قوَّة؛ لقد تشابهوا رغم اختلافهم، رغم الفارق الكبير في النشأة والأصل والبيئة التي تربوا بها؛ لكنَّهم ظلّوا -جميعهم بلا استثناء- ذباباً بشرياً يحوم حول ماضيه؛ وهذا -بالتحديد- ما يجعلهم مميزين؛ فرغم الاختلاف وُجِدَ التشابه الذي من أجله -بالأصل- دارت الأحداث.
**ثالثاً وأخيراً: تعقيب على الشخصيات:
_سبق وقلتُ أنَّ (باتريشيا) تصلح لأن تكون البطلة. هذه البنت -رغم إعجابي الشديد بها- إلَّا أنَّها أشعرتني في أحيان كثيرة بأنَّها صوت الكاتب وليست شخصية من ضمن شخصياته؛ لقد كانت تخميناتها تفوق الحد الطبيعي للبشر. تفوق حتَّى سنها الصغير، لكن بوسعي تمرير ذلك بمراعاة ما يقتضيه الدور، وما سبق وقاله والده عن ذكائها الحاد بالطبع.
_(كريستيانسين)...لن أقول أنَّني -في آخر جلسات القراءة خاصةً- كنتُ أحدِّثة بصوتٍ مرتفع وأنا أقول: "أرجوك، لمرَّةٍ واحدة؛ افعلها ولاحظ شيئاً صحيحاً"...لكنَّ المضحك أنَّه لم يفعل، وحسناً سأعترف؛ لقد جاء ذلك مناسباً -تماماً- لشخصيته، حتَّى هو اعترف بذلك.
_(ديرفوت)، وسأضطر لاستخدام لقبه وليس اسمه الحقيقي في محاولة بائسة لعدم حرق الأحداث؛ هذا الرجل تعاطفتُ معه رغم كل مثالبه وأخطائه. تعاطفتُ أكثر مع كونه قد أضاع عمره في سبيل أن يكون "ذبابة بشرية تحوم حول الماضي" ولطالما تساءلتُ: ماذا لو كان اختار العكس؟ماذا لو كان دودة ستخرجُ ذات يوم معلوم من شرنقتها على هيئة فراشة؟…وهذا يضعنا أمام تساؤل لابدَّ منه: هل حياة الإنسان -دائماً- تسير في تيارٍ دون رغبته؟ أم أنَّه -بطريقةٍ أو بأخرى- دائماً ما يحظى بدور البطولة في توجيه دفّته؟!..
تعليقٌ ختامي:
_الرواية -ورغم كلّ ماسبق ولاحظتُه- ممتعة، معجونة بصبر، ومُبَهَّرة بقصص جانبية متشابكة تثير الإعجاب لا ريب. استمتعتُ بها، وبمعرفتي أنَّها كانت بداية انطلاق سلسلة بوليسية للكاتب (هانز). وقد جاء في آخرها مفتتح الرواية التالية لهذه.