اقتباسات من رواية أوهام الجنوبي: من أقاصيصِ الصباح

ضَحاياه من السُذّجِ، اُعرقت القرية في أوحالِ الدَّين، رَهنَ الناس حقولهم بثمنٍ بخس، لم تكن هذه آخر خُدعة، ولم يكن “مسعود” آخر المحتالين، ولم يكن صاحبنا آخر المخدوعين، طالما كان في الدنيا الطَّمع.

مَرّر خدعته على المسكينة، أوهمها بشراءِ مدفنٍ كريم يجمعها في أخراها، فاستسلمت المرأة لوعوده، ليندفع أشد عزمًا تلهب حماسته خيالات تهدر في أذنيهِ مثل هدير الموج، هَبطَ القرية على غَيرِ موعدٍ من يتقَّصى عنه، وبعد أن اطمأن مجلسهما،

اكتفى من يَومهِ بأحاديثِ المصَاطب تروي ظمأه وتطفي حرارته، يتَتبعها في عِمايةٍ مأخوذًا برائحة الثراء السَّهل، تخايله هيئة أمه وقد تبَدَّلت من الفقر والابتذال، لسيدةٍ وجيهة تَأمر وتنهي في بيتِ عِزٍّ ومَال ‫ كانت والدته قد ادخرت جنيهات يسيرة من ميراث قديم.

بالكَادِ يَجمع من فُضلةِ أجرته لأسبوعٍ كامل قُروشًا قَلائل، تكَفيه الشاي والدُّخان، ورَطلٍ من اللَّحمِ يَدخل داره بعد خِصامٍ مَرير.

أُلقي ببصري من نافذةٍ صغيرة مُتربة الزجاج، فارتد إليّ خاسئًا وهو حسير، بعدما تَكشّفت مرائي الطبيعة المحتضرة، على بُعدِ أمتارٍ شجرة لا أظن أن لها من اسمها إلّا خضرة باهتة، وأغصان تهدلت تلفظ آخر ما تبقّى لها من أنفاسٍ،

تمددت وابتسامة ساخرة من رفاقي تتوزع على قسماتِ الوجوه، امتدت يد صاحبي، فأدارت جهاز التكييف، ليندفع تيار من هواءٍ بارد، لَطَّف جسدي وبَرّد أعصابي، لأستسلم ريثما تحلّ عني صدمة المفاجأة.

نشوانة بدعاءِ البكَور الصَّادح: «اللهم اعطّ كلا سُؤله»، تتهادى الشمس محمولة أشعتها فوق صفحةِ السَّماء الزرقاء، في تجرئ تكشف قناعها الشفَّاف في فزعةِ الشَّبابِ وعنفوان، تتواثب تعتلي منصتها،

وشيء يهَتفُ في الأعماقِ: «لبيك وسعديك»، انتظم المشهد الغامض، وتجلى عن مشاهد قريتي الجميلة، ببيوتها الطينية المتواضعة، تكسوها المهابة والوقار، حانية لبناتها، مشرعة نوافذها، وخمائلها المزدانة بنقاءِ الصّباح المُنعش يتَخطّفُ الأبصار،«----صباحات

وتْلك طَبيعة الجَنوبّي حين يشعر بالامتهانِ عندها ينتصر لكرامتهِ مَهما كاَنت الكُلفة، انصرفَ القومُ عنه بعد لأيٍّ؛ ليعود صاحبنا أدراجه حيث كان مُكفَهرّ الوجه يُكمل مكالمته وكأنَّ شيئًا لم يحدث، من الوَهلةِ الأولى لم نكَن على وِفاقٍ، فتحياتي التي ألُقيها حارة عليه كل مرة، لم تصنع منه ذلك الشخص الودود الذي يرد سلامًا بسلام.

ظنت وهي الغريرة أنَّها لا تزال تعيش في البندرِ في زِحامٍ البنايات الشَّاهقة، تختلط بضوضاءِ تُغالِبُ كُلّ شيء، تلك التي لا يعرف فيها الأخ أخاه، تناست هذا كله لكنها اصطدمت فَجأةً بِجدارٍ كثَيف لزَج، تَرصّدت الأقدارُ خُطواتها لُتلقي بها على ركام كثيف لزج.

أدوِّنُ في صفحةٍ بيضاء، وبِخطٍّ مُرتَعشَ: «ماتَ صديقي، مَاتَ رفيق الشُّباك، رَحَلَ دون أن يُخبِرنا عن لُغزِ الغُربة الملعون، كَيفَ النّجاة من بطشها، وإنّا على إثرهِ راحلون…».

راقبتُ في مَرارةٍ الفضاء السَّاجي في رقدتِه، تَقدَّمت ساعات النهار جافلة، وانتشرت مع مجيئهِ ذرات الغبار، التي تتحلق في الجو مُتكاثِفة أمام زجاجِ الناَّفذة، حَدجتُ الصورة الكئيبة في فَزعٍ، يقطعه أحيانًا صوت البلابل.

وجدتني أمام إنسانٍ ناقص، يَسعى للَكمالِ بقدرِ الَّنقص الذي فيه، فهو ضحية بين نفسه المُحتّرقة المُسلطة عليه، تُشعره بالعَجزِ وعَدم الكِفاية، وواقع يأبى إلا الاعتراف بسطوة المال ونفاذ أهله ‫ جَمعتنا جِلسة ذَات ظهيرة، ألقى إليَّ بوسادةٍ، قَرَّب مني طبق التسالي، تنحنح في افتعالٍ ممجوج.

قلت له ترضية لنفسه: “في هذا الزمان العقيم التعليم لا يساوي شيء”، هزَّ رأسه لتَذوب مَلامحه في ابتسامٍة بلهاء، قائلًا في رضا: “صحيح.. صحيح”

شَيءٌ من التَّخريفِ

‫ لم أكَد استقر لأسبوعٍ في المَسكن حَتّى تراءت الأحداث سراعا، لم يكن لي بهِ سابق معرفة، فكلّ ما أتَذكره أنّه من تلك الزُّمرة التّي سَبقتنا لهذه الغُربة الطَّاحنة في بلادٍ بعيدة، انتحرَ فيها شبابنا،

«أهل المنيا ناس طيبة، الله يرحمك يا مرات عمي»، ثم عَادَ إلى سيرته الأولى فَزِعًا، لينصرِف بغيرِ وداعٍ، سَارت علاقتنا بين مَدٍّ وجَزر، حاولت استمالته ثانيةً،

يكرُّ حبات مسبحته يُردِّدُ في مرارةٍ: «يا لطيف يا لطيف»، لا تنفك عنه تباريح نفسه، حتى يرجع الغائبُ آخر العام، يَزفّ إليهِ بُشرى نجاحه، ساعتئذٍ يبتلع العجوز ريقه المُتَيبِّس، تحمل عودته للدارِ بعض الحياة، تتردّد التّهاني، وتُمدّ موائد الأطايب عامرة،

يرُدِّدُ في نجوى مَفزوعًا: «يا لطيف اللطف يا رب، ربنا يكفيك شر مصر وبنات مصر المُلعَب»

نذرت لله نذرًا، أن تُطِعم مساكين مقام سيدي «الدماريسي» كُلَّ جُمعةٍ طوال حملها، وما إن أطلّ للدُّنيا برأسهِ، فبشَّرتها «نفيسة» الداَّية: «ذكر كفلقةِ قمرٍ يملأه الحسن»، حَتَّى أضمرت المرأة أن تُكمل ما نَذرت فتراه أفنديًا.

فهو وسواس يحب النظافة لدرجة، وصاحب ذائقة تعشق الأكل الطيب، اجتهدت في ارضائه، كان يغرقها بنكاتهِ، ومزاجه اللاذع عادا صغارا، كانت والدتهما تقول منزعجة حال تضاربهما: «‏انتو زي الديوك تاكلوا في بعض»، يذكرها بعصبيتها، وتذكره بمكائده، أشارت عليه أن يظلا سويا، فلم يعد لهما أحد.