"ابنة الديكتاتور... الماضي المشوّه لن يترك قلوب ضحايا الحاضر"
في إطار المجتمع والأشخاص والزمان نتبادل خبراتنا، ونعيش الحياة بظروف مختلفة، لكلٍ منا تأثيره في دائرته، وربما يتسع مدى تأثيرها ليشمل كثيرين، البعض يأمل أن يكون مؤثرًا، والبعض تجبره الظروف على أن يكون مؤثرًا، وشتان بين عواقب هذين في زمان لا ينسى الماضي مهما بعد.
أعتقد أن هناك ركنان أساسيان يؤثران في ظروف المجتمع: الحالة السياسية، والحالة الاقتصادية. وفي هذا النص الروائي نتعرض لشخصيات منها من انجرف مع التيارات، ومنها من يحرّكها سؤاء سرًا أو علانيةً، وعلى الأغلب عدد الضحايا يفوق بكثير عدد الناجين.
"فيروز" الطبية الطامحة في مستشفيات حالتها موتّرة عصيبة تسعى إلى حياة جديدة، في بلد آخر، تحقق فيها شهادة علمية أعلى، وربما تهرب من مناخ سيء عانت منه سنوات طوال، لكن يطرق الماضي بابها محملًا بأسرار صادمة!
شعرت في بداية النص أني أقرأ رواية اجتماعية مستهلكة، بتناول سطحي لأمور الزواج والارتباط والعمل، مع حوار ضعيف اللغة وغير مناسب يمكن اختصاره كثيرًا، إلى أن تعرفت على "فيروز" و"حسام" وغيرهم ممن قادوني لبوابة جديدة في النص هي روح النص الحقيقية وسر اختلافه.
نقابل في الجزء الأهم والأطول من الرواية "سناء بكاش"، شخصية ثرية كُتبت باحترافية شديدة، ما بين مشاعر وطنية تؤمن بها، وشرور تتسبب بها مجبرةً أو باختيارها وتخطيطها. لا أذكر أني قرأت في نص روائي مسبق تناولًا لهذه الحياة بهذا البناء المتّسق القوي؛ فصراع الفن، والسياسة، والصحافة، تحت ظلال السُلطة هو أمر شائك للغاية، ويحتاج لبحث ورؤى متعددة وجهات النظر، وقد تم ذلك بطريقة مناسبة ورائعة، في بناء روائي شيّق، وليس مجرد سرد لمعلومات تاريخية بلغة جافة، إلى جانب أن الشخصيات التاريخية المذكورة أمثال: مصطفى أمين، والعقاد، لم تكن في الخلفية، بل تم نسجها مع خيوط الأحداث بشكل احترافي شديد، فتولد لديّ فضول للبحث وراء حقيقة شخصية "ابن الدكتاتور" دون أن يفقد النص الروائي قيمته ومتعته ولغته الروائية المناسبة، أعجبني حوار "سناء" مع "العقاد"، مشهد مفصل لي في الرواية، وشبكات الشخصيات المعقدة مع "سناء" تثير التساؤل والخوف؛ فأحيانًا تدفع النساء للبغاء من اجل معلومات في خدمة الوطن، وأحيانًا تلجأ لنفس الحيل من أجل مصالح شخصية، فهي طاقة دفينة ومتناقضة من ادّعاء الوطنية، وكيد الرغبات.
الخط الزمني في الرواية منقسم لثلاثة خطوط: الحاضر ويشمل شخصية "فيروز"، الماضي وشخصية "سناء بكاش" مع شبكة علاقاتها، "سناء مع خادمتها "حسن"، والخط الثالث لم يكن موفقًا في ظهوره ونسجه في البناء السردي؛ فالجزء الثاني من الرواية ينقسم إلى محطات تبدأ بذكر تاريخ شهري وسنوي للحدث المقبل، يبدأ بسرد قليل للخط الثالث، ثم يستكمل بتناول خط "سناء" في الماضي مع علاقاتها، وهو أمر مشتت للغاية؛ فمن الأفضل ذكر التاريخ المرتبط بالأحداث الهامة وليس تاريخ كتابة المذكرات، لكن بمرور الصفحات قلّ هذا التشتت مع معرفة طبيعة النص.
الحوار في الرواية يمكن اختصاره كثيرًا، شعرت أن كثيرًا منه يمكن أن يتحوّل إلى سرد، يضيف للبناء الروائي ولا ينقص منه، أما حوار الجزء الثاني كان في أغلبه موفقًا ومناسبًا لطبيعة الشخصيات المحيطة.
الروايات التاريخية من الأمور التي يختلف عليها كثيرون، ما بين من يرفضون مزج الطرفين فإما تاريخ وإما رواية، ومن يرجّحون فكرة وجود التاريخ في خلفية تطل من نافذة على أحداث مجتمعية تمسّ كل قارئ، ومنهم من لا يمانعون وجود "فانتازيا" تاريخية بتغيير الأحداث التاريخية كيفما يشاء لعرض رؤية وحالة فنية جديدة، أما عن هذا النص الروائي فأنا أراه نموذجًا رائعًا للرواية التاريخية؛ فالأبحاث المبذولة وفيرة ولم تتم من أجل استعراض ثقافة معلومات؛ بل تم نسجها في بناء الرواية جيدًا، فكنت قارئًا لديه فضول مزدوج تجاه أحداث الرواية المقبلة وتقلّبات الشخصيات، وتجاه ما تم من أبحاث للحصول على معلومات دفنها التاريخ عمدًا أو عفويةً، فهذا نص روائي له تجربة مهمة وممتعة، صحيح احتاج عناية أكبر ببعض التفاصيل، لكن يظل نصًا مهمًا في عالم الأدب قبل عالم التاريخ.