المؤلفون > أحمد أمين > اقتباسات أحمد أمين

اقتباسات أحمد أمين

اقتباسات ومقتطفات من مؤلفات أحمد أمين .استمتع بقراءتها أو أضف اقتباساتك المفضّلة.


اقتباسات

  • كم في الدنيا من أناس أشقياء أكبر شقائهم ناشئ من أنهم يعملون فيما لم يخلقوا له، هذا مهارته في يده يعمل بعقله، وهذا مهارته في عقله يعمل بيده، وهذا مهارته في قلبه يعمل بيده أو عقله، وهذا ماليٌّ يعمل عالمًا، وهذا عالم يعمل ماليًّا وهكذا، ومن هذا القبيل صنف من المعلمين لم يخلقوا للتعليم وإنما خلقوا للمال، فأجسامهم في التعليم، وطموحهم للمال، فلما لم يصلوا إلى المال — وذلك طبيعي — عذبوا عذابًا شديدًا، وضاقت نفوسهم، واضطربت عقولهم، وفشلوا في التعليم والمال معًا، نسوا أن التعليم عمل روحي لا يصلح له إلا من تجرد للروح وشئونها، وقلبوه إلى عمل آلي فحرموا لذة الروح، ولم ينجحوا في العمل الآلي، وكانت حجرة التعليم سجنًا، وعلاقتهم بالمتعلمين علاقة السجان بالمسجونين، فلم ينجحوا في التعليم الذي قيدوا أنفسهم به، ولا في المال الذي طمحوا إليه، وكان من الخير أن يريحوا أنفسهم من التعليم، ويريحوا التعليم من أنفسهم، لقد فهموا كما يفهم الماليون أن مقياس النجاح في الحياة سعة الرزق، وعظم المرتب، وتدفق المال، فلما لم يجدوا شيئًا في أيديهم عدوا أنفسهم خاسرين، فنقموا على أنفسهم وعلى الزمان، وعلى حرفة التعليم، وعلى القدر الذي ألجأهم إليها، وفاتهم أنهم غلطوا في مقياس النجاح، فوزنوا بالمتر، وقاسوا الطول بالقنطار، فمقياس النجاح في الحياة العلمية غيره في الحياة المالية والمناصب الحكومية.

  • التعليم — أيها الأب — نوع من الرهبنة، انقطع صاحبه لخدمة العلم كما انقطع الراهب لخدمه الدين، أو إن شئت فقل: إن الراهب يعبد ربه من طريق تبتله واعتكافه، والمعلم يعبده من طريق علمه وتعليمه، كلاهما زهد في الدنيا إلا بقدر، وانقطع عن الناس إلا ما يمس عمله، وكلاهما ركز لذته وسعادته فيما نصب له نفسه،

    فإن رأيت راهبًا ينحرف ببصره إلى زخرف الدنيا وزينتها فهو راهب فسد، وإن رأيت معلمًا يجعل غرضه الأول المال والجاه وعرض الدنيا فهو — كذلك — معلم فسد.

  • المعلم يتاجر، ولكنه يتاجر في الأرواح والعقول والمشاعر، ويكسب ويخسر، ولكنه يكسب نفوسًا تتعلق به وقلوبًا تتجمع حوله، أو يخسر عقولًا أتلفها ونفوسًا أفسدها.

  • ماذا يصنع المعلم؟

    إنه يجلو أفكار الناشئين والشباب، ويوقظ مشاعرهم، ويحيي عقولهم، ويرقي إدراكهم، إنه يسلحهم بالحق أمام الباطل، وبالفضيلة ليقتلوا الرذيلة، وبالعلم ليفتكوا بالجهل، إنه يملأ النفوس الخامدة حياة، والعقول النائمة يقظة، والمشاعر الضعيفة قوة، إنه يشعل المصباح المنطفئ، ويضيء الطريق المظلم، وينبت الأرض الموات، ويثمر الشجر العقيم، إن المعلمين عدة الأمة في سرائها وضرائها، وشدتها ورخائها، لا تنتصر في حرب إلا بقوتهم، ولا تنهزم إلا لضعفهم، ولا يزهر العلم فيها إلا بهم، ولا ترقى مصانعها ومتاجرها إلا برقيهم، هم منشئو الجيل، وباعثو الحياة، ودعاة الانتباه، وقادة الزمن، هم عنوان الأمة، ومظهر ضعفها أو قوتها، في عقلها وقلبها وخلقها؛ لأنهم يصنعون القوالب التي تصب فيها أبناؤها وبناتها، ويشكلونها بالأشكال التي يتصورونها ويضعونها.

  • ليس يصلح للتعليم من طلب بتعليمه الغنى والجاه، وليس يصلح كذلك من سدت في وجوهه طرق الكسب الأخرى، ثم رأى أن باب التعليم وحده هو المفتوح أمامه فدخله مرغمًا، إنما يصلح للتعليم من كان يرى — بحكم طبيعته ومزاجه — أن لذة التعليم تفوق كل لذة، وأنه سعيد باحترافه التعليم، وأن ما يجده من لذة في حرفته يعوض ما يجده من ضيق في رزقه وضآلة في جاهه، وإلا كانت حرفة التعليم عذابًا، وكل درس يؤديه ألمًا يمتد بامتداد الدرس، وكل فترة من الزمن بين درسين أنينًا من الدرس الماضي وإشفاقًا من الدرس القادم، وكل ساعات فراغه شكوى من الزمان أن رماه بحرفة التعليم، وسبًّا للقدر أن بلاه بهذا البلاء المبين.

  • ويتسلم زمام الأمم أقواها قلبًا وأحياها ضميرًا، لا أشدها دعابة وأكثرها تهويشًا.

  • إن طغيان العلم على الروح والعقل على القلب هو وجه الضعف في المدنية الحديثة، ولا أمل في صلاحها إلا بتعديل عناصرها وحياة قلبها، إذ ذاك تنظر إلى الإنسانية لا إلى القومية، وإلى العدل والحق لا إلى الجنس، وإلى خير العالم كله لا إلى خير جزء منه، وهذا اللون هو لون المدنية المنتظر.

  • لقد أدى إعلاء شأن العقل والعلم وحده إلى هذه الحروب الطاحنة الدامية، ولو تدخل القلب فأعلى شأن الإنسانية لوقف العلم عند خدمة الحياة، ولم يتعدها إلى إعدام الحياة، كما أدى إعلاء شأن العلم إلى أن وجهوه إلى الدين يشرِّحه كما يشرح الطبيب الجسم، ويحلله كما يحلل الكيمياوي الأشياء، ففقد روحه وفقد قيمته، وفقد الناس احترامه، وأنى للعلم أن يحكَّم فيما ليس من اختصاصه؟ إذ كيف تخضع الحب للمنطق، والشعور للعقل، والعاطفة للبرهان؟

    إن تحكيم العلم في هذا كتحكيم العين في المسموع والأذن في المرئي والأنف في الملموس، ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، فلما حلل العلم الدين حوله من عاطفة إنسانية وطموح إلى المثل العليا إلى خدمة اجتماعية،

    لقد أنشأ الدين مملكة سماوية تشرئب إليها النفوس، وتسمو إليها الأرواح، فجاء العلم يحطم هذه المملكة ويرد الدين إلى حظيرة الواقع ودنيا الجماد.

    لقد جاء الدين فدعا إلى إحياء القلب وإحياء البصيرة، وجاء العلم ينكر كل شيء إلا العقل وإلا المنطق، ولا أمل لسعادة الإنسان إلا بحياة عقله وقلبه معًا، واعتراف كل بحدود دائرته من غير أن يتعدى اختصاصه، لقد حول العلم الدين إلى رياضة، وجعل البرهنة عليه من جنس البرهنة على نظرية هندسية، وجهل الفرق بين شيء خارجي يبرهن عليه، وشيء في النفس ينكشف بالشعور، إن الدين شعور وإلهام مركزهما القلب، والعلم يشرح ويوضح ويبرهن ويستمد ذلك من الرأس، إن العلم ليعجز عن إدراك جمال الدين كما يعجز عن الشعور بجمال ازدهار الزهرة وابتسامة الطفل، لقد ملأ العلم الحياة مالًا واختراعًا، ولكن كان شأن الإنسان معه شأن الرجل كثر ماله فأنفق عمره فيه يديره ويدبره حتى لم يجد وقتًا ما يفكر فيه لنفسه، كذلك كان شأن الناس في المدنية الحديثة، تنوعت حياتهم وكثرت تكاليفهم، وازدحمت أوقاتهم، وامتلأت جيوبهم، ولكن فرغت قلوبهم، وعاشوا عيشة صاخبة لا يجدون فيها أنفسهم حتى كأنهم في حلم ثقيل.

  • لقد آمنت المدنية الحديثة كل الإيمان بقانون السببية، فكل ظاهرة في الوجود إذا حدثت فهناك سبب لحدوثها، وإذا أريد علاجها فلا بد من علم بها ووضع العلاج على أساس العلم بها، تستوي في ذلك الظواهر الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية، على هذا الأساس نظموا حياتهم في الصحة والمرض، في شئون المال، في شئون التربية، في الإقدام على المشروعات، في علاج المشكلات، الدرس أولًا ومعرفة العلل والأسباب والنتائج.ثم بناء العمل على هذا الدرس، لا شيء يعمل سَبَهْللًا، ولا شيء يعمل اعتباطًا، في المدرسة يبنون حياتهم المدرسية على دراسة النفس وعلم التربية، وفي البيت يبنون حياتهم المالية على قوانين الاقتصاد، وفي حياتهم السياسية على قوانين علم الاجتماع، وفي حياتهم الحربية على علوم الحرب وفنونها وإحصاءاتها وتجاربها الميكانيكية والنفسية، حتى لهوهم ولعبهم مبني على قوانين النفس وقوانين الرياضة.

  • فاللهم يا من أعززت المسلمين بعد عناء، وقويتهم بعد ضعف، ووحدت كلمتهم بعد فرقة، وألفت بين قلوبهم بعد شتات، أدرك آخرهم بما أدركت به أولهم، وأعزهم بما أعززت به سلفهم، وبصرهم بوجوه ضعفهم حتى يتخذوا العدة لنهوضهم، وأنِرْ لهم سبيل القوة حتى يعودوا سيرتهم، واجعل العام الجديد فاتحة عهد جديد، يصلحون فيه أخطاءهم، وينعمون بقوتهم، ويعتزون بجاههم، ويباهون العالم بأعمالهم.

  • فالناس مذ خلقوا عبيد ما ألفوا، أعداء ما جهلوا، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون، هذا تاريخ كل نبي، وكل مصلح، وكل داع إلى الخير، أدرك ذلك ورقة بن نوفل، وقد قص عليه النبي ﷺ فلخصه تلخيصًا بديعًا، إذ قال له: «والله لتكذَّبَنَّه، ولتؤذَيَنَّه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي»، وأدرك النبي ذلك كله فوجم، وأدرك تأييد الله فسكن.

  • كان أول كلمة أوحيت إليه «اقرأ» ولكن ماذا يقرأ؟ وكيف يكلف القراءة وما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخط بيمين؟كلا، إنه لم يكلف قراءة الحروف والكلمات، فهي تقيد البصر وتحد الفكر، إنما كلف قراءة أسمى من هذا وأرقى، إنها قراءة الكون دالًّا على خالقه، ووحدة العالم دالة على وحدة صانعه:

    ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾، اقرأ: ﴿والشَّمْسِ وَضُحَاهَا* وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾، اقرأ: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾، اقرأ اللهَ في السماء ونجومها، والأرض وجبالها ووهادها، والطير في الهواء، والسمك في الماء، اقرأه في اختلاف الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان، اقرأه في نبضات القلب وحركات الحس وخلجات النفس، اقرأه في كل شيء تجده في كل شيء.نظرة غيرت كل شيء، وسر أوحي إليه فتكشف له كل شيء، وبدأ يقرأ العالم من جديد، فإذا كل شيء جديد، لقد كان هذا العالم قبل هذه النظرة جامدًا فدبت فيه الحياة، وكان لا دلالة له على شيء فدل على خالق الحياة.

  • والنفوس المرهفة تتعلم من الأمر الصغير ما لا يتعلمه أوساط الناس من الكبير.

  • إن ذيوع الترجي في الأمة علامة الخراب في أخلاقها، فالرجاء يُشيع في الراجي ذل السؤال، ويشيع في المرجو صلف المتصدق، وكبرياء المحسن لغير وجه الله، وهو يبث في الراجي والمرجو معًا الاستهزاء بالعدل والسخرية بالحق، ويقلب المسألة من حق وواجب إلى علاقة شخصية، هي علاقة المستجدَى منه، أو علاقة المدل بجاهه على من لا جاه له.

  • في حضرة اللانهاية ومناظرها يشعر الإنسان بالتسامي والرقي، ويشعر بلذة التغير من حياة مادية كلها أكل وشرب وشهوات، وتشع عليه اللانهاية من نفسها فيحن إلى اللامادية، ويسبح في التجرد، ويحتقر ما هو متقلب فيه أثناء حياته اليومية، وتلمع في نفسه لمعات برق مضيئة يود لو طالت، ولكنها لا تطول، فسرعان ما تجذبه أرضيته إلى الأرض، وماديته إلى المادة.

    في هذه المواقف تتحرك العاطفة الدينية، فهذه اللانهاية الصغرى تذكر الإنسان باللانهاية الكبرى، وهذه الأزلية الأبدية المحدودة نوعًا ما، تذكر بالأزلية الأبدية المطلقة، وهذه ضعة الإنسان أمام جلال البحر والشمس والأفق وما إليها، تذكره بضعة هذه كلها أمام خالقها، وتجرُّد النفس أمام هذه المناظر يطمعها في الخلود، على حين أن انغماسها في المادة يبعث فيها الشره؛ لتنعم أكثر ما يمكن من النعيم قبل أن يدركها الموت، ثم هذا الغموض في هذه المناظر يذكرنا بالموضوعات الدينية التي دقت عن الفكر وسبح فيها الخيال، كالنعيم المقيم، والعذاب الدائم، والجنة والنار، واللوح والكرسي والعرش، وما إلى ذلك.

    أمام هذه المناظر الجليلة، والمناظر الجميلة، والمناظر اللانهائية، تنبعث صرخة من أعماق القلب: «هنا موضع سجود».

  • إنما طلب محمد الحق من طريق أسمى من ذلك كله، وأرفع من ذلك كله: طلبه من طريق القلب، وأعلن أنه لم يطلب علمًا ولكن طلب إيمانًا، فأعلن أنه أمي وفخر بأمّيته؛ لأن القلب فوق اللغة، وفوق الكتابة والقراءة، وفوق العلم، وفوق المنطق؛ وهو القدر المشترك بين الناس، لا يؤمن بحدود اللغة والجنس، ولا يؤمن بحدود اللسان والألوان. من أجل هذا لم يذهب — وقد حار — إلى معلم يعلمه الكِتَاب، ولا إلى مثقَّف بالكتب والأديان، وإنما فضل على ذلك كله غار حراء حيث الطبيعة — على فطرتها — مفتوحة أمام قلبه، وحيث يتصل هو وهي بربها وربه. لقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، واتجه اتجاه الأنبياء، لا اتجاه الشعراء والعلماء، وتهيأ للأمر العظيم، فلمعت في قلبه الشرارة الإلهية، كما يتهيأ السحاب فيلمع البرق. لقد أضاءت له هذه الشرارة الإلهية كل شيء، وكانت رسالته من جنس هدايته؛ فرسالته أن يبعث الحياة في القلب، ويبعث الضوء إلى النفس، كالقمر يستمد نوره من الشمس، ثم يعكس أشعته الجميلة على الناس، يشترك في الاهتداء به العالم والجاهل، والذكي والغبي، والفيلسوف والعامي، على اختلاف فيما بينهم؛ لأن لديهم جميعًا قدرًا مشتركًا من القلب صالحًا للاهتداء ..

    وليست العقول مسايرة في الرقي والانحطاط للقلوب، فقد يكون مريضُ القلب صحيح العقل، وقد يكون صحيحُ القلب مريض العقل، ومقياس صحة الاستفادة من النبوة صحة القلب لا صحة العقل؛ فلذلك آمن بلال قبل أن يؤمن عمرو بن العاص، وأسلمت جارية بني مؤمل قبل أن يسلم أبو سفيان.

  • كل أدب في العالم خاضع للنقد، ولا يرقى إلا بالنقد؛ كما أن كل أدب لا يمكن أن يحيا وينهض إلا باقتباسه من حين إلى آخر من الآداب الحديثة، والمقارنة بينه وبينها، حتى تعرف جوانب قوته وجوانب ضعفه، ثم يستفاد من هذه المقارنة بإدخال ما توحي إليه من إصلاح.

  • إن كان ما أقول حقًّا، وكان ما وصفت داء، وجب أن نضع له الدواء، والدواء في نظري أشياء.أهمها: ألا يكون في برنامج المدارس الثانوية دراسة للأدب الجاهلي وما يشبهه كأدب جرير والفرزدق والأخطل. وبعبارة أدق — أن يكون لنا نوعان من الدراسة: نوع للخاصة كقسم اللغة العربية في الجامعة والأزهر ودار العلوم، وهؤلاء يدرسون كل شيء في الأدب العربي قديمه وحديثه، جاهليه وإسلاميه ما استطاعوا؛ فهم يدرسون الأدب الجاهلي كما يدرس رجال الآثار الآثار القديمة، وكما يدرس رجال التاريخ التاريخ القديم. أما غير المتخصصين كطلبة المدارس الثانوية وأشباههم فحرام أن يضيعوا أوقاتهم في دراسة الأدب الجاهلي وهم لا يعلمون من الأدب شيئًا، وحرام أن نلوي عقولهم وأذواقهم بالمعلقات وأشباهها، وهم لم يتكون ذوقهم الأدبي بعد؛ فيجب أن يقطعوا مرحلة التعليم الثانوي بدراسة نماذج من القرآن الكريم ونماذج من الأدب الحديث ومختارات سهلة عذبة من الشعر العباسي وأمثاله، على شرط أن يكون هذا الأخير متفقًا والذوق الحديث، ملائمًا في موضوعاته وفنه لحياتنا الحالية؛ فان نحن قرأنا لهم شيئًا من الشعر الجاهلي فعلى شريطة أن يكون سهلًا عالميًّا لا صعبًا موضعيًّا؛ ولخير لهم ألف مرة أن يقرءوا أدب المعاصرين وشعر المعاصرين من أن يقرءوا للشنفرى وتأبط شرًّا وجرير والفرزدق؛ فإن هؤلاء المعاصرين يشعرون شعورهم، ويكتبون بلغتهم، ويتعرضون لموضوعات تهمهم، ويتذوقون بذوقهم، فإذا أكثر الطلبة من قراءة مؤلفاتهم استطاعوا أن يقطعوا مرحلة كبيرة في سبيل رقي لغتهم وتكوّن ذوقهم. وليس يفيدهم شيئًا أن يضيعوا سنة أو أكثر في دراسة مختارات من المعلقات، وسنة أخرى في دراسة مختارات من جرير والفرزدق والأخطل، وليت الأمر اقتصر على عدم الفائدة، بل إن ضرره محقق في إفساد ذوقهم وضياع زمنهم.إن الأمم الأخرى الحية كإنجلترا وفرنسا تدرس لطلبتها شيئًا من الأدب القديم، ولكن قديمها ليس كقديمنا، فعمر الأدب الإنجليزي والفرنسي حديث لا يمعن في القدم إمعان الأدب الجاهلي، بل إن نحن وقفنا عند العصر العباسي كنا أقدم منهم. وشيء آخر، وهو أن أدب هذه الأمم — مهما قدم — وليد حضارة تشبه حضارتهم التي يعيشون فيها، ووليد بيئة اجتماعية هي أصل لبيئتهم الاجتماعية الحالية، فهم إذا درسوا هذا الأدب القديم تذوقوه كما يتذوقون حضارتهم، ووجدوا فيه موضوعات من جنس موضوعاتهم. أما الأدب الجاهلي فوليد بيئة مختلفة تمامًا عن بيئتنا الحالية، وتحتاج في فهمها إلى تخصص تام لمعرفة البداوة وشئونها وأحوالها حتى نستطيع أن ندرك أدبها، وهذا القدر لم يدركه المتخصصون فكيف بالطلبة؟

    إني أسائل رجال الأدب بإخلاص: ماذا استفاد طلبة المدارس من دراسة الأدب الجاهلي في إنشائهم وفي معلوماتهم وفي تربية ذوقهم؟ لا شيء إلا أن يمثلوا دور الببغاء، يحفظون ما يلقى عليهم حتى إذا نقشوه على ورق الامتحان تخففوا منه سريعًا، ولو أنهم صرفوا هذا الزمن في دراسة الأدب الحديث لنما الأدب الحديث وأزهر، ورقى ذوق الطلبة وأثمر.

  • كان غزل الأدب الجاهلي حزينًا بائسًا؛ لأن أرض الجاهليين بائسة فقيرة؛ ولأن سكانها كثيرو الرحلات وفي تنقل مستمر، والآباء يستنكرون من اجتماع الحبيبين؛ فما بال الغزل العباسي وغير العباسي حزينًا بائسًا، والخير وفير، والحبيب قريب؟ بل ما بال الغزل في الإماء حزينًا بائسًا والأمة في اليد ولا يستنكف مالكوها من حب ووصال؟وكان أدباء الجاهلية يفتتحون قصائدهم بالنسيب إذا أرادوا مدحًا أو أرادوا هجاءً أو

    أرادوا أي غرض؛ لأن هذا يتفق وذوقهم؛ فما بال الأدب الذي أتى بعد ينحو هذا المنحى وقد تغيرت الظروف؟

    وما بال الشاعر العباسي يقصد إلى الممدوح التركي أو الفارسي فيتغزل بدعد ويهيم بدعد، في أبيات طوال حتى يصل إلى الممدوح وقد أضناه التعب؟وكان الشاعر الجاهلي يقطع الفيافي والقفار على ظهور الإبل، فيصف عناءه، ويصف طريقه الوعر، ويصف هزال ناقته، وهو في ذلك صادق كل الصدق؛ ولكن ما شأن مسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي تمام والبحتري، والممدوح في بغداد والمادح في بغداد،

    والشاعر يسير على رجله خطوات ليصل إلى الممدوح فلماذا يحشر في الوسط ناقة وبيداء ونحو ذلك؟

    وكان الشاعر الجاهلي يخرج للبادية، ويصعد الجبال ويهبط الوديان، ويصيد الوحش، ويرى المها والغزلان، وعيون المها وجيد الغزلان، فيشتق تشبيهاته مما يرى ومما يحس ويلمس؛ ولكن أين المها في بغداد أما عليّ بن الجهم حين يقول:«عيون المها بين الرصافة والجسر»وأين المها والوعل في مصر والأندلس، حتى امتلأ بذلك كله شعر مصر والأندلس؟

    وكان الشاعر يرحل في صحبه، فإذا وقف على دار محبوبته استوقف أصحابه يعينونه على البكاء؛ وقد حدث لأمر ما أن قال «امرؤ القيس» الجاهلي: «قفا نبك» بصيغة التثنية، وكان في هذا صادقًا؟ فما بال «حافظ إبراهيم» في مصر، ولا دار ولا أطلال ولا صحب، يقول في مدح الشيخ محمد عبده:

    بكّرا صاحبيَّ يوم الإياب

    وقفا بي في عين الشمس قفا بي

    ويطول بي القول لو أخذت في تعداد هذه الأشياء التي لا علة لها إلا سلطان الأدب الجاهلي على الأدب العربي.ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتهم يقولون: «إن أجود الشعر أكذبه» أفليس كل هذا كذبًا في كذب؟

  • رفعوا من قيمة كل شيء جاهلي وغلوا في تقديره؛ فالماء الحقير في مستنقع جاهلي أفضل من الذكر من دجلة والفرات والنيل وكل أنهار الدنيا، والجرادتان اللتان غنتا النعمان كان صوتهما وغناؤهما خيرًا من كل صوت وغناء، ودَوسَر كتيبة النعمان بن المنذر أقوى جيش عرفه التاريخ، وأيام العرب في الجاهلية ووقائعها الحربية لا يعادلها أي يوم من أيام المسلمين، وجبلا طيئ خير جبال الدنيا، وحاتم الطائي لا يساوي كرمه كرم، حتى الرذائل لا يصح أن يساوى برذيلتهم رذيلة. فليس أبخل من مادر، ولا أشأم من البسوس، ولا أسرق من شظاظ!