المؤلفون > أحمد أمين > اقتباسات أحمد أمين

اقتباسات أحمد أمين

اقتباسات ومقتطفات من مؤلفات أحمد أمين .استمتع بقراءتها أو أضف اقتباساتك المفضّلة.


اقتباسات

  • فمن ظهر قبل أن يتم نضجه لم يُرْجَ خيره، والقيمة الحقة ولو قليلة، خير من الشهرة الزائفة ولو واسعة.

  • هذه شجرة الورد تمتد وتشرئب وتتفرع وترتشف — في نهم — ما تقدمه لها الشمس من ضوء وحرارة، وتشرب كأس الحياة إلى الثملة.

    فليت الناس يعملون عملها، فيفتحوا قلوبهم للضوء والحرارة، ويمدوا فروعهم ما استطاعوا ليمتصوا غذاءهم، وينموا قواهم وملكاتهم، ويشربوا كأس الحياة مترعة.

  • ضبط العواطف في الفرد يُكتسب بالمران والتعود، فلا يزال المرء يغضب فيكظم ثم يغضب فيكظم حتى يكون حليمًا، ولا يزال يقاوم نفسه فلا يندفع في سروره وحزنه حتى يكون حكيمًا، وكثيرًا ما تكون حدة العواطف نتيجة قصر النظر وضيق العقل، فإذا هو وسع أفقه وجرب الحياة ودرس الأشياء ونتائجها علم كيف يضبط نفسه.

    أما تربية هذا الخلق في الأمة، فهو — أولًا — في يد الرأي العام، فإذا احتقر الناس الغضوب لغضبه، والجبان لخوفه، والمرح لاستهتاره، والحزين لجزعه، تصلب عود الأمة وانضبطت عواطفها واعتدلت في انفعالاتها.

    وهو — ثانيًا — في يد قادتها، فالأمة تحتاج في طور تكونها إلى مثل عليا من قادتهم يقتدون بها، فإذا رأتهم قد ضبطوا عواطفهم إذا اختلفوا، وحفظوا ألسنتهم إذا غضبوا، وضحوا بشهواتهم إذا أُزموا، كانت كل هذه دروسًا للشعب يحتذي حذوهم ويسير على منهجهم، ثم قادة الفنون في الأمة يجب أن يتخلوا عن هذه الميوعة في العواطف، فالغناء يجب ألا يكون كله ذوبانًا في العشق وهيامًا في الغرام، والأدب لا بد أن يكون مما يبعث القوة في النفس، ويسبب الصحة في العاطفة، والتمثيل يجب أن يكون معتدلًا في العاطفة طبيعيًّا في الإخراج، ويعلم الناس أن ليست أحسن الروايات ما أسالت الدموع، ولا بعثت على القهقهة العالية، إنما أحسنها ما أثار عاطفة صحيحة لا مريضة، وبعث على التبسم اللطيف أو الحزن الهادئ.هذه كلها تصبح دروسًا يتعلم منها الشعب فيعتدل مزاجه، وتصح عواطفه، ويحسن تصرفه.

  • ثم كان — مع الأسف الشديد — أن جهل الناس هذا العنصر الأساسي في الإسلام، وهو الاجتهاد، فأغلقوا بابه فأغلقوا عليهم باب الرحمة، وإذا عدم الناس الاجتهاد أصابهم الركود، وتصلب العود، والزمان لا يقف أبدًا، والحوادث تتجدد دائمًا، فإذا لم تواجه بالاجتهاد المرن، ولم ينتفع بتجددها، تخلف الناس عن زمانهم، وجمدت عقولهم، وسكنت حركتهم، وأصيبوا بالفقر العقلي، وهذا ما حدث للمسلمين فعلًا.وقد تدرج هذا التصلب من اجتهاد مطلق إلى اجتهاد في المذهب، إلى اجتهاد في الفتيا، إلى لا شيء.

    وكان لهذا الركود أسباب تاريخية عدة، لا مجال لتفصيلها، أهمها القضاء على حرية الفكر التي كان يقوم بها المعتزلة، وغلبة بعض المحدثين في عهد المتوكل، ثم غلبة نوع من التصوف ينشر القول بالجبر، لا بالمعنى الفلسفي الذي هو ربط الأسباب بالمسببات، ولكن بمعنى التسليم المطلق لحوادثِ الدهرِ، من غير تدخل في شئونها، مطالبين أن يكون العبد كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، لا يكون له حركة ولا تدبير.

    وقد أحس بعض كبار المسلمين بهذا الخطر الناشئ من ضياع الاجتهاد، فحاولوا محاولاتٍ عنيفةً في هذا الباب، كما فعل عبد المؤمن بن علي في المغرب حول سنة ٥٥٠ﻫ، إذ وجد العلماء انهمكوا في الفروع، ورضوا بالتقليد، فأحرق كتب الفروع، وألزم العلماء بالاجتهاد وترك التقليد.

    وكما فعل ابن تيمية عقب سقوط بغداد، إذ نادى بالاجتهاد ودعا إليه، ولقي في ذلك من العناء ما لا يوصف، ولكن مع الأسف ذهبت دعوتهم هباء.إن وقوف الاجتهاد معناه الركود، معناه الحكم بالإعدام على العقل، معناه وقوف الناس حيث هم، وكذلك كان تاريخ المسلمين منذ القرن الخامس، حياتهم متكررة، ولا جديد ولا قائد ولا مجتهد يبعث على حركة، أو يحول الحركة إلى جهة صالحة.

  • يجب أن يفهم الناس أن الموت والحياة قانون طبيعي، وأن الغنى والفقر قانون طبيعي، وأن الصحة والمرض قانون طبيعي، وأن صلاح الناشئين وفسادهم بالوراثة والتربية قانون طبيعي، وأن الهزيمة والنصر قانون طبيعي، وأن موقف الأمم في سلم العالم قانون طبيعي، وأن من أراد من الأمم أن يرقى لا بد أن يعمل مقدمات الرقي الطبيعية ليصل إلى النتيجة الطبيعية، وأن الله ربط الأسباب بالمسببات ربطًا محكمًا، وجعل بين المقدمات والنتائج عروة وثقى لا انفصام لها، وأن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن من زرع الحنظل جنى الحنظل.

  • كان «سهل التستري» يقول: «أكبر الكرامات أن تبدل خلقًا مذمومًا من أخلاقك» وجاء رجل فقال له: إن الناس يقولون: إنك تمشي على الماء!

    فقال: سل مؤذن المحلة فإنه رجل صالح لا يكذب.

    قال: فسألته، فقال المؤذن: «لا أدري هذا، ولكني أعلم أنه نزل الحوض في بعض الأيام فوقع فيه فلو لم أخرجه لبقي فيه أبدًا».

  • إن مزرعة تزرع بالعلم خير لا محالة من مزرعة تزرع بالتقاليد، وإلا كان علم الزراعة غير صحيح، وإن تاجرًا يسير على قوانين الاقتصاد ينجح لا محالة أكثر من تاجر يسير بالبركة، وإلا كان علم الاقتصاد خطأ، وهذا هو وحده السر في نجاح الأجنبي حيث يفشل المواطن، إنه يسير في تجارته ومعيشته وجده ولهوه حسب قوانين الطبيعة فينجح، ويسير المواطن حيثما اتفق فيفشل، لو تكشف قوانين الطبيعة لإنسان لقرأ المستقبل قراءة لا تخطئ؛ لأن خالق العالم خلقه على قاعدة السبب والمسبب والمقدمات والنتائح، فلو أدركنا كل المقدمات والأسباب لجزمنا جزمًا قاطعًا بالنتائح والمسببات.

  • ثم ماذا تعملون لصغاركم؟

    أنشئوا لهم المدارس التي تتسع لهم جميعًا، واحملوا الحكومة أن تخصص أكبر ما تستطيع من ميزانية لهذه المدارس، اجعلوا لغنى الغني حدًّا إذا تجاوزه ذهب إلى هذه المدارس.

    ثم لا أمل في هذه المدارس أيضًا إذا علمتم تلاميذها ليكونوا مثلكم في عقلكم وأخلاقكم.

    فعلموهم أول ما تعلمونهم فن الحياة الذي فشلتم فيه واستطعموا مرارة الفشل، ليحلو لكم أن تعلموهم وسائل النجاح، وحددوا غرض الأمة الذي تنشده ووجهوا التعليم والتهذيب نحوه، وارسموا في وضوح حاجات الأمة ومرافقها المختلفة، وشكلوا التعليم كمية وكيفية حسب هذه المرافق، علموا أطفالكم جميعًا الأمانة والرجولة، ونظافة اليد، ونظافة الخلق، وقيمة الحق، والشجاعة في قول الحق، والحياة للحق.

    ولا تقولوا: إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن هذا قول سخيف من آثار القرون البالية،فإنا نرى كل يوم المصائب تعلِّم اتقاءها، والرذيلة تعلم الفضيلة، وسخافة السخيف توحي حكمة الحكيم، علموهم ضد ما تعلمتم في السياسة، علموهم من صغرهم أن يحكموا أنفسهم ليصلحوا إذا أسند الحكم إليهم، وعلموهم الحرية التي لم تعرفوا أنتم أن تنتفعوا بها ليعرفوا هم كيف ينتفعون بها، وعلموهم الإيثار والتضحية في ضوء ما أَلِمْتُم من الأثرة والأنانية.

    وجهوا كل همكم إلى الصغار، إلى الجيل القادم، إلى قادة المستقبل، واجتهدوا أن تحموهم من تقليد جيلكم، فضعوا أمامهم أمثلة نبيلة غير أمثلتكم، واخفوا عن أعينهم شروركم، فإنكم إن تعبتم في إنشاء جيل واحد على هذا النمط ضمنتم الخير لأجيال متعاقبة.

    أما أنتم فيغفر الله لكم.

  • أخطر خطأ في هذا الباب اعتقادنا أن اللغة مقدسة، فنعبدها ونجلها، ولا ندخل عليها تغييرًا ولا تعديلًا، مع أن اللغة خادمتنا وليست سيدتنا ولا إلهنا، هي التي تخضع لنا، لا نحن الذين نخضع لها، هي عرض من أعراض حياتنا كالثوب نلبسه والمتاع نستخدمه والبيت نسكنه، وكل شيء من ذلك يجب أن يخضع لظروفنا ومقتضيات أحوالنا، يغير الثوب حسب تغير الجسم، ويبدل بناء البيت حسبما تتطلبه راحتنا، ويصلح المتاع حسب موقفه منا: وهكذا اللغة هي آلة خادمة ذليلة للتعبير عما في نفوسنا، نملكها ولا تملكنا، وتقدسنا ولا نقدسها، ويجب أن تموت أجزاؤها وتحيى أجزاؤها وتخلق أجزاؤها حسب حاجتنا، وأن تتشكل لنا لا أن نتشكل لها، وإلا كانت لغة أثرية لا لغة حية.

    إن كانت اللغة غير مقدسة فمعاجمها غير مقدسة، يجب أن تخضع لكل تقدم علمي نصل إليه، فتعريف الألفاظ يجب أن يكون حسبما أقره العلم الحديث، واللفظ إذا استعمله جيلنا ولم يكن في المعاجم وجاريًا على النمط العربي يجب أن يدون فيها، ولا يحتج بأنه غير موجود في المعاجم القديمة، ولا نصغي إلى هؤلاء المتزمتين الذين يصرخون دائمًا في وجهنا: «إن هذا ليس في القاموس» كأن القاموس كتاب منزَّل يتعبد به — إن هذا النمط من القول شل للفكر وعقدة في اللسان وتعويق للأقلام، وحرام ما نحن فيه من ضياع أوقات المدرسين والمفتشين في الجدال في أن هذه الكلمة في المعجم أو ليست فيه، وفي سبيل ذلك تضيع قيمة المعاني والأفكار والأساليب.كم أعمارٍ ضاعت في هذا الباب على غير جدوى، وكم صحائف سودت في هذا الموضوع من غير طائل، وكل هذا مبني على هذا الخطأ في تقديس اللغة.ما يضرنا أن نستعمل تعبير «من جديد» إذا استسغناه ولو لم يرد في المعاجم؟

    وما يضرنا استعمال كلمة «هناء» إذا أقرها أدباؤنا ولو لم توجد في المعاجم؟ ولماذا نفحم في الإجابة إذا قال قائل: إنها وردت في كتاب «العمدة» أو في مقدمة ابن خلدون، ولا يكون لنا الحق الذي كان لابن رشيق وابن خلدون؟!

    لقد ظنوا أن «القاموس» نص على كل لفظ عربي، فما لم يوجد فيه فليس بعربي، وهذا غير صحيح مطلقًا، فهو لم يذكر «الرحمن الرحيم» في رحم، وقال: «الشنار أقبح العيب والعار» ولم يذكر العار في مادته، وقال في أول كتابه: «الحمد لله منطق البلغاء باللغى في البوادي»، ولم يذكر في مادة لغة أنها تجمع على لُغَى، وقال في الخطبة أيضا: «فصرفت صَوْبَ هذا القصد عناني» ولم يذكر في مادة صوب أن من معانيها الجهة، إلى كثير من أمثال ذلك.وهَبْ أن العرب لم ينطقوا بها، فلماذا لا ننطق بها نحن إذا جرت على أساليب العرب وأوزانها وأصولها؟!

    كل ما في الأمر أن المسألة لا يصح أن تكون فوضى ينطق كل من شاء بما شاء، وإلا انقلبت الحرية إلى عكس المراد منها، فاللغة مواضعات ووسيلة للتفاهم في حدود معقولة، إنما الواجب أن يكون في الأمة متخصصون مرنون أحرار عالمون بالعربية وأسرارها مطلعون على حاجة الأمة ومطالبها اللغوية، يوسعون على الناس في كلامهم وفق أسس اللغة ويضعون لها ما هي في حاجة إليه.

    وهذا هو عمل المجامع اللغوية لو أنها قامت بواجبها.

  • لشد ما نحتاج في أدبنا إلى الإكثار من تحليل الشخصيات العظيمة لتخلق فينا عظماءَ جددًا، ولشد ما نحتاج إلى الكتب الجذابة لنشئنا لتغذيتهم بالمبادئ القويمة، ولشد ما نحتاج إلى شعر في الطبيعة وجمالها، وإلى شعر جاد قوي أخلاقي روحي نابع من خيال رفيع، ولشد ما نحتاج إلى القصص تشرح العيوب الاجتماعية وتستغفل القارئ فتضع له الدواء القوي المر أثناء تلذذه بحادثة أو منظر! إلى نحو ذلك.

  • إن الأدب العربي في جملته نوعان: نوع غير صالح لحياتنا الواقعية التي نحياها الآن، ولا يتفق مع مثلنا الأعلى الذي ننشده في هذا الزمان، وهذا يجب أن يوضع في متحف، كالآثار القديمة، يعنى به الخاصة وحدهم ومؤرخو الأدب فقط، ونوع صالح لزماننا ومثلنا، وهذا وحده هو الذي نسلمه لنشئنا، ونصوغ منه أمانينا، ويستشهد به أبناؤنا، ويحفظ منه جيلنا.إنَّا بعرضنا كل الأدب العربي على الناشئين بغثه وسمينه وصحيحه وفاسده — من غير «تقليم» — نضع في أذهانهم صورًا مختلفة متناقضة لمثل مختلفة يضرب بعضها وجه بعض، ولا نكون لهم مثلًا أعلى منسجمًا، فتكون النتيجة بلبلة الأفكار، وحيرة الأذهان واضطراب الناشئ يمينًا ويسارًا، وأمامًا وخلفًا، وفي هذا ضرر بَيِّنٌ على عقله وعواطفه.

    ما بالنا في فروع العلم المختلفة نعلمه ما أثبت العلم صحته في الطبيعة والكيمياء والرياضة والجغرافية وعلم الأحياء، ولا نعلمه بجانبه ما أثبت العلم فساده من سطحية الأرض، ودوران الشمس حولها، وخلق الحي من غير الحي ونحوها، ثم لا نفعل ذلك في الأدب، فنعلمه ما صح وما فسد، وما يبعث عواطف مريضة بجانب ما يبعث عواطف صحيحة؟!

    لا بد أن يكون لنا منهج واحد وأسلوب واحد في هذا وذاك، وإلا كنا نزن بميزانين ونكيل بكيلين.

  • قرأت مثلًا قول المغيرة بن شعبة: «أحب الإمارة لثلاث، وأكرهها لثلاث: أحبها لرفع الأولياء، ووضع الأعداء، واسترخاص الأشياء، وأكرهها لروعة البريد، وفوت العزل، وشماتة العدو»، فقلت: إن هذا نظر غير صائب، وشعور غير نبيل، إنما تحب الإمارة للعدالة، وإيصال الحقوق لأصحابها، وتحقيق ما أمكن من إصلاح، أما حبها لنفع الصديق وضر العدو ونحو ذلك فنظر سطحي سخيف، لا يصح أن يعرض على النشء.

  • إن الأمم الآن تتطلب التضحية، تتطلب مثلًا أعلى أساسه خير المجتمع لا خير الفرد وحده، وتتطلب إعداد الفرد للكفاح، فما كان من الأدب العربي يدعو الفرد أن يبحث عن لذته مهما كانت نتائجها على المجتمع يجب أن يُنحى، والأدب الذي عماده أن فلانًا أعطاه من مال الأمة لقصيدة أشاد فيها بذكره فجعله ملكًا فوق البشر، ليس صالحًا لجيلنا بحال من الأحوال، بل إن مدح الملوك والأمراء والحكام يجب أن يكون أساسه العدل وخدمة الرعية، وأداء ما عهد إليهم بذمة وصدق، سواء أعطوا مالهم الخاص أو منعوا، كرموا أو بخلوا، وأن الأدب الذي يخيف من الموت، ويجعل الحياة كلها توقعًا للموت، وخوفًا من الموت، يجب أن يموت، ويحل محله تقديس الحياة والعمل للحياة، حياة الأمة وحياة الفرد، ولا بأس بالموت إذا الموت نزل!

  • إننا من أكثر الأمم حبًّا في الغناء، وحسنًا في الصوت، وقدرة على تكييفه، فالغناء في الإذاعة، وفي القرآن، وفي الأذان، وفي النداء على المبيعات، وفي الذكر، وفي الزار، وفي الأفراح، وفي المآتم، وفي كل مظهر، ولكن كل هذا ضائع، لأننا لم نعرف استغلاله، ويحمل وزرَ هذا الأدباءُ والمغنون: فالأدباء تأخذهم عزة الأرستقراطية فلا ينزلون إلى ميادين الشعب يضعون له غناءه، وإذا نزلوا لا يحسنون، لأنهم لا يدركون روحه، والمغنون مائعون، تضع في حناجرهم أناشيد الحماسة والقوة فسرعان ما يقلبونها إلى تخنث وضعة وتذلل وبكاء.

  • أفليس عجيبًا أن يكون موضوع الحب في أغانينا يستغرق منها تسعة وتسعين في المائة؟ كأن ليس لنا عاطفة إلا عاطفة الحب! ثم أي حب؟ إنه الحب المادي الوضيع، والحب المائع، والحب الذائب.إن مثلنا — إذ ذاك — مثل أمة كل شعرها ونثرها الفني غزل، وكل تصويرها امرأة عارية، وكل أكلها نوع من الغذاء واحد، وكل حياتها لون واحد.أين غذاء العواطف الأخرى في الغناء؟ أين غذاء عواطفنا في مشاهد الطبيعة الجميلة؟ وأين عواطفنا في الإعجاب بالبطولة المجيدة؟ وأين عواطفنا في مواقفنا التاريخية الجليلة؟ وأين عواطفنا في كرهنا للنذل والجبان؟ وأين إعجابنا بالمرأة تنتج النتاج القوي الباهر؟ والرجل يضحي لأسرته، والرجل يضحي لقومه، إلى ما لا يحصى من عواطفَ! أعدمنا كل هذا ولم يبق إلا الحب؟

    -

    ألجأنا إلى هذا كله أننا نظرنا إلى الغناء على أنه مسلاة فقط، ولما يصل رقينا إلى أن نشعر أنه تربية للأمة.

  • إن الغناء فن من الفنون الجميلة كالتصوير والموسيقى والأدب، وهذه كلها وظيفتها نقل عواطفنا إلى غيرنا في ثوب جميل، وهي تقابل في ذلك الكلام غير الفني في نقله أفكارنا إلى غيرنا، فالفنون الجميلة لغة العواطف، والكلام لغة العقل، وإذا كانت اللغة قاصرة كل القصور في التعبير عن العواطف استعنا على تكميل نقصها بمحسنات من إشارة وتمثيل في الخطابة، واستعارات وكنايات وتشبيهات ومحسنات بديعية وخيال في الأدب، وألوان مختلفة في التصوير، وصوت جميل في الغناء، وآلات مختلفة في الموسيقى، والغناء غني بهذه المحسنات، فهو يعبر عن هذه العواطف، مستعينًا بالأدب وجماله، والصوت وجماله، وكثيرًا ما يقرن بالموسيقى وجمالها، فهو في هذا كله احتفال جمال ليس له نظير في هذا الباب.إن الفنون كلها تنبع من عواطف، وتؤدَّى بشكل جميل إلى العواطف، فتثيرها وتخلق المشاركة فيها، إنها — على اختلاف أنواعها — غذاء العواطف، كما أن العلم — على اختلاف أنواعه — غذاء العقل، وظلت المدارس جاهلة أن الإنسان عقل وعواطف، سائرة على أنه عقل فقط، فملأت برامجها بالعلم لغذاء العقل، وأهملت العواطف، حتى آمنت أخيرًا بأنه عقل وعواطف، فعدلت برامجها وأدخلت فيها الموسيقى والرسم والتصوير والغناء، فآمنت — بعد كفر طويل — أن الفنون تربية يستكمل بها الإنسان بعض نواحي النقص فيه.

  • ولذلك قَلَّ أن تخرج الجامعة أديبًا شاعرًا أو كاتبًا، وإنما تخرج أديبًا ناقدًا أو أديبًا عالمًا، ومن كان أديبًا من رجال الجامعة فمن طبعه ومن نفسه، لا من الدراسات الجامعية، وإن شئت فقل: إنه أديب على الرغم من الدراسات الجامعية، لا أديب بفضل الدراسات الجامعية!

  • ثم تطور الإنسان ورقى وأصبح ينشد مع أبي العلاء قوله:

    فلا هطلت علي ولا بأرضي

    سحائب ليس تنتظم البلادا

    ومع البارودي قوله:

    أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ

    أحق بالري لكني أخو كرم

    لقد رقى شعوره ورقى عقله حتى وفق بين مصلحته الشخصية ومصلحة أسرته، ثم رقى شعوره ورقى عقله حتى وفق بين مصلحة أسرته ومصلحة أمته، ورأى أن ليس من الخير في شيء أن يعيش لنفسه دون أسرته أو لأسرته دون أمته، وبلغ من رقي بعض الأفراد أن يدرك أن خير أسرته وخير أمته يتحدان، فقبل تجنيد أبنائه عن طيب خاطر، ورأى أن مصلحة أسرته ومصلحة أمته في ذلك شيء واحد، ودفع الضرائب راضيًا كذلك، والتزم كل ما توجبه القوانين ولو ضحى ذلك بجزء من ماليته وجزء من حريته، لسمو نظره فوق الاعتبارات الشخصية والاعتبارات العائلية، كل هذا تم مع الاحتفاظ بالأسرة والاحتفاظ بالأمة معًا،

    فلماذا لا يخطو العالم الإنساني خطوة أخرى في الرقي، فيوحد بين خير الأمة وخير الإنسانية، ويرى خير الأمة من خلال خير الإنسانية، ولا يرى الخير لأمته إذا تعارض مع خير الإنسانية!

  • لقد كسر العلم الحدود بين الأمم، وألغى المسافات بين أجزاء العالم، وتبين كل جزء من العالم حاجته إلى كل أجزاء العالم، وأصبح من المستحيل أن تعيش أمة بنفسها ولنفسها، فوسائل النقل هي وسائل العالم، والراديو صوت للعالم، وخيرات العالم للعالم، وشرور العالم مصيبة العالم، المخترعات ملك العالم ونعمته أو شقاؤه، ومحصول الشرق لا يستغني عنه الغرب، وصناعة الغرب لا يستغني عنها الشرق، أفَيُمْكن مع هذا كله أن تكون السياسة قومية فقط والأخلاق قومية فقط، أو يكون شأننا إذًا شأن من يلبس ثوب طفل لرجل أو يقطع المسافة البعيدة بجمل، أو ينير القصر البديع بزيت، أو يواجه المدفع الرشاش بقوس؟

  • وكانت النصرانية والإسلام أقرب إلى النظر الثاني، فقد أهدرا الجنسية واللونية والقومية واللسان والدم، واعتبر الأساس وحدة العقيدة، فلا فرق أمامها بين أسود وأصفر وأبيض و«لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، وكسرا الحدود الجغرافية، فالمسلم — مثلًا — يعد المملكة الإسلامية كلها وطنه، لا فرق بين حجازي وخراساني ومغربي وهندي ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، والإسلام كسر الحدود بين الرجل والمرأة، وبين المولى وسيده؛ وفي الحروب الصليبية وقفت الكتلة المسلمة أمام الكتلة النصرانية مهدرتين الجنسية إلا ما كان من اعتبارات شخصية أو تنازع على الرياسة.