يعود "أزهر جرجيس" في روايته الأحدث "وادي الفراشات" إلى حقبة زمنية مختلفة وبعيدة نسبياً في العراق وقت الحصار، قُبيل الحروب التي شتت البلاد، وإن كان يُمكنك أن تسمع طبول الحرب في خلفية الأحداث، مع "عزيز عواد" الذي حاول أن يحلم في بلده، حاول أن يُحب ويقطف من الحياة بعض متاعها، ولكن من قال أن الحياة بهذه السهولة؟ فمهما ظننت أن ذلك الشهد المُسكر في فمك سيدوم، ستجده يستحيل علقماً كالصبار لا يُفارقك، هذه هي الحياة على أمثال "عزيز" وصدقني هم كثيرين وفي أوطان مختلفة، تدهسهم الأقدام في كل مكان، مهما حاول وحاول وحاول، يجد نفسه عارياً في مواجهة الريح.
حافظ الكاتب على السمات التي لطالما أحببتها في أعماله، السخرية السوداء المريرة والتي قد تُضحكك ولكن بعد القليل من التفكير والإمعان في تفاصيل الأحداث تجد هذه الضحكة تصبح ابتسامة مريرة، شر البلية ما يُضحك تلك المقولة التي عهدناها في أوطاننا ونحن نسخر من أوضاعنا وحياتنا فعندما تجد أن كل ما تسعى إليه في حياتك هو أن تعيش، أن تمتلك الحد الأدنى من متطلبات الحياة كمسكن ومأكل ومشرب ووظيفة وفتاة جميلة تتزوجها، فكيف يُمكن أن تُحقق ذلك الحد الأدنى في وطن لا يكف عن الدهس علينا؟ لا يكف حكامه عن البصق في أوجهنا، ولا تكف زبانيته عن البطش بنا، من أجل ماذا؟ أهي الأموال التي جعلت أوجنتهم تتورد؟ أهي كراسي السلطة التي تناسب مؤخراتهم العملاقة؟ أم إنها شهوة العنف والتعسف؟ التلذذ بقهر الإنسان؟ مهما حاولت البحث عن إجابة، فلن تفهم تلك الكيانات التي تتحكم في مصائرنا وتحرق أرواحنا.
ولكن المثير للإعجاب أن "عزيز عواد" يُحاول ويُحاول ويُحاول، لا يكف عن المحاولة، هو يريد الحفاظ على عائلته من التشتت والضياع، رغم سوء الحظ الذي يلازمه، وكأنه لا يكفيه ما ناله، فكلما تستقر أقدامه على الأرض قليلاً لثوان معدودة، يأتي إعصاراً يقلب حياته رأساً على عقب، حتى تضع الأقدار في طريقه "وادي الفراشات" فهل سينقذه؟ هل سيضع لحياته معنى؟ أم إنه مجرد وهم وسراب يُحاول به أن يصبر نفسه على تلك المهزلة المسماة حياته؟
لا يزال "أزهر جرجيس" يؤكد على أهميته كواحد من أهم الكتاب العرب المعاصرين، في البداية شعرت بأن العمل جيد ويُشبه حكايات أخرى، ولكن بالتدريج وجدت نفسي أعيش العمل وأتأمل في تفاصيله، واكتشف فردانيته وتميزه، جعلني أتمنى واقعاً مُغايراً لما يحدث وأعلم أنه لن يحدث، ظللت أتخبط كما تخبط عزيز عواد في حياته، أحاول النجاة معه، ومساعدته بالخروج من ورطته الحياتية اليومية، حتى عندما تهاوت كل الطرق الأخرى ولم يبق إلا طريق وادي الفراشات، صافحته وتعاهدت على زيارته، ولكننا نسينا -عواد وأنا- أن الحياة تفاجئك بما لم تفكر فيه، وأن الحياة لا تخلو من سيزيفيتها.