رواية "الفراودة" للكاتبة دينا الحمامي
تدور رواية "الفراودة" حول حياة قرية مصرية غارقة في التقاليد والأساطير، يتشابك الواقع مع الخرافة في حكايات سكانها، تستعرض شخصيات متعددة، أبرزها شخصية “الحاج جميل” وخطيب ابنته “كريم” اللذان اختفيا بشكل مفاجئ في ليلة كتب الكتاب، مما أثار التساؤلات والمخاوف في أرجاء القرية، كما تنسج الرواية العديد من القصص حول هذا الاختفاء الغامض، منها الأسطورة التي تشير إلى أن "النداهة" هي من نادت عليهما، أو أن حوريات النهر قد أغرقتهم في المياه، ووسط هذا الغموض تبدأ الشائعات والحكايات في الانتشار، مما يعكس قدرة الخيال الشعبي على تحويل الأحداث المأساوية إلى أساطير تمثل الهروب من الواقع، وبينما تحاول القرية استعادة حياتها الطبيعية، تبقى آثار الفقدان تخيم على النفوس، وتنعكس على علاقات الزواج في القرية، بدأت بعض العلاقات بالانهيار قبل أن تبدأ بسبب الشكوك والخرافات المتعلقة بالاختفاء.
رواية "الفراودة" للكاتبة دينا الحمامي ليست مجرد سرد تقليدي لحكاية اختفاء رجل وخطيب ابنته في قرية مصرية، بل هي نسيج أدبي متقن يحمل بين طياته جوانب إنسانية واجتماعية، تتداخل فيها الأسطورة مع الواقع، وتصنع عالمًا أدبيًا فريدًا يستحق التوقف عنده وتأمله.
اعتمدت الكاتبة على بنية سردية متشابكة، تمزج فيها بين السرد الواقعي والتأملات الأسطورية، فهي لا تنقل الأحداث بشكل تقريري مباشر، بل تجعل الأسطورة والفقدان الشخصي محورًا لعوالم الشخصيات وأفكارها، يمكننا القول إن البناء السردي يقوم على الدمج بين الواقعي والأسطوري، ما يضفي عمقًا على الحكاية، حيث يتحول الاختفاء من حدث غامض إلى أسطورة قرية تعيش بين الخرافة والحقيقة، مما يعكس تفاعلات النفس البشرية مع الأحداث الصادمة، وكيف تتحول هذه التفاعلات إلى حكايات وأسطورات تحتضنها الذاكرة الشعبية.
الشخصيات في الرواية لا تبدو نمطية، فكل منها يمتلك أبعادًا إنسانية ونفسية عميقة، اعتمد التفاعل بينها على الحوارات الداخلية التي كشفت عن عوالمها المضطربة ومشاعرها المكبوتة، كل شخصية عبرت عن صراعها مع اللعنة ومع ظروف حياتها المعقدة، وهذا ما جعلها تبدو حية ومتشابكة، كما تعكس تفاصيلهم هموم مجتمع بأسره، شخصية "الحاج جميل" على سبيل المثال رغم اختفائها المبكر، تظل حضورًا قويًا في الرواية كرمز للأب والركيزة المفقودة، التي بدونها يتفكك النظام الاجتماعي، أما خطيب ابنته، "كريم" يمثل التطلعات الفردية التي تتحطم أمام جبروت القدر والمصير، الشخصيات الأخرى مثل "الشيخ عبد القادر" ساهم في خلق طيف واسع من العلاقات الاجتماعية التي تتشابك وتتأثر بغياب الرمز الأبوي، من خلال هذه الشخصيات أعادت الكاتبة تشكيل البنية الاجتماعية للقرية، حيث تجلى الصراع بين الفرد والجماعة، وبين التقاليد الصارمة التي تحكم الجميع وتفرض واقعًا قاسيًا.
الأسطورة في "الفراودة" ليست مجرد خلفية سردية، بل هي جزء لا يتجزأ من بنية الرواية، الحكايات التي تتناقلها القرية حول "النداهة" و"حوريات النهر" تشير إلى مدى تجذرها في وعي الناس، وكيف أصبحت وسيلة لتفسير ما لا يمكن تفسيره، هذا التداخل بين الأسطورة والواقع يمثل الهروب من عبثية العالم وفوضويته، الأسطورة في هذا العمل ليست مصدرًا للخوف فحسب، بل تحمل طابعًا خياليًا يغذي الأمل لدى البعض ويغلق الباب أمام آخرين، كما أنها تعبير عن هشاشة الإنسان أمام قوى أكبر منه، وعن محاولة العقل الجمعي التمسك بأي تفسير يُبقي على التماسك الاجتماعي.
المكان في رواية "الفراودة" ليس مجرد فضاء سردي، بل هو كيان حي يتنفس مع الشخصيات، يتغير بتغيرها، ويعكس حالة الغموض التي تسيطر على الأحداث، القرية التي تقع عند الحد الفاصل بين الواقع والأسطورة ترمز للوطن، للمجتمع الريفي الذي يتحكم فيه الماضي ويعيد تشكيل الحاضر وفقًا لتقاليده وأعرافه.
أما الزمان فهو زمن متوقف، حيث يحافظ السرد على إيقاع بطيء يتيح للقارئ التمعن في كل التفاصيل الصغيرة، كما أن الزمن في هذه الرواية غير خطي، فهو ينزاح بين الحاضر والماضي، وبين الأحداث الفعلية والتأملات الذاتية للشخصيات، هذا الأمر الذي عزز الشعور بالغموض الذي يلف الرواية.
اللغة في "الفراودة" مزيج بين اللغة المباشرة التي تصف الأحداث واللغة الرمزية التي تتعمق في دواخل الشخصيات وتبرز الصراع الداخلي لكل منها، استعانت الكاتبة بتوظيف الرموز والاستعارات، مما جعل الرواية تميل نوعًا ما إلى الأسلوب التأملي.
الحوار في الرواية يتميز بطابعه البسيط المحمل بالمعاني العميقة، كما أنه لا يعبر عن أفكار الشخصيات فقط، بل يكشف عن تناقضاتها الداخلية وحساسيتها تجاه ما يحدث حولها، ويعكس التوترات النفسية والاجتماعية التي يعيشها الأبطال، كما يعتمد على التلميح والإيحاء أكثر من التصريح، مما يجعل القارئ مضطرًا إلى قراءة ما بين السطور لفهم الدوافع الحقيقية للشخصيات، ومع ذلك قد يشعر البعض أن الحوار في بعض الأجزاء يمكن أن يكون أكثر مباشرة لزيادة الوضوح، فالحوارات مليئة بالإشارات الضمنية والرسائل المبطنة التي تدفع القارئ إلى التفكير العميق في مغزاها.
الأسلوب الأدبي المتناغم مع الأجواء الأسطورية للرواية أعتقد أنه سيخلق حالة من الجذب للقراء، حيث ينتقل السرد بسلاسة بين الواقعي والرمزي، بين المادي والخيالي.
ختامًا: "الفراودة" ليست مجرد قصة عن اختفاء رجلين، بل هي تعبير عن معاناة إنسانية أعمق، عن الفقدان والتأمل في معانيه المختلفة، الأسطورة التي تُبنى حول الاختفاء تعكس عجز البشر عن السيطرة على مصائرهم، ورغبتهم في إيجاد تفسيرات تتجاوز حدود المنطق، وتفتح باب التساؤل أمام القارئ حول دور الأسطورة في حياتنا، وكيف يمكن أن تكون أداة لفهم العالم أو للهروب منه.
في المجمل الرواية جيدة جدًا أنصح كل من يهتم بهذا النوع من الكتابات قراءتها، تمنيت فقط لو أن الحوار فيها كان فصيحًا.