الاسم: الأشجار ليست عمياء.
الكاتبة: شيماء هشام سعد.
دار النشر: المعرفة للنشر والتوزيع.
عدد الصفحات: 270
ماذا تفعلُ بي كتاباتُ الكاتبة؟!
أظنني بنتًا جبانة..
منذ ثلاثة أعوامٍ _تحديدًا منذ قرأتُ قصّة السيّدة رئيفة لأول مرة_ وأنا أتهرّب من قراءة أيّ عملٍ جديدٍ للكاتبة..
أسرُّ كثيرًا عندما يصدر عنها عملٌ جديدٌ وأحرص على اقتناءه وأضعهُ في الرفّ العلويّ المفضّل عندي في المكتبة...
ثمّ... لا شيء..
أخافُ أن أقرأ لها..
أخافُ الزلزلة التي تحدثها كلماتها في داخلي...
أخافُ آثارها عليَّ وعلى قلبي وحياتي..
أخافُ حين تصفني..
حين تكتبني وصفًا ونصًّا.. يرعبني أن أجد نفسي في سطور كتبتها كاتبةٌ بيني وبينها بلادٌ ومسافات!
شيءٌ يهمس في أذني:
يا بِنت، لقد فُضِحنا!
رغم ذلك..
لا أدري كيف ومتى؟
لكنني شرعتُ في القراءة على جُبْنٍ وخوف..
ثم جعلتُ أقرأُ بحبٍّ وشغفٍ وشوقٍ.. كمن يلاقي حبيبًا بين أسطر الرواية!
يستوقفني كلّ لفظٍ وكل وصفٍ وكل كلمةٍ.. وتتسعُ ابتسامتي عندما أكرر سطرًا واحدًا خمس مراتٍ وأردد:
«مثلُ هذا لا يكتبهُ أحدٌ سواها!»
وأراهنُ أنّ نصوصها لو وضعت بين ألف نصٍّ بليغٍ فصيحٍ لاستخرجتُ نصّها من بينهم.. ولعرفتُ قلبها وصوغها ونظمها وإحساسها من بين كلّ النصوص الأخرى!
لا زلتُ أذكر كيف شعرتُ لأول مرة قرأتُ فيها لها.. كان شعورًا عجيبًا..
شعورٌ بأنني كنتُ أعدو سنينَ قراءتي الماضية كلها بحثًا عن هذه النصوص وهذه الكاتبة..
شعرتُ بأنني أخيرًا وجدتُ ضالتي.. وجدتُ النصّ الذي أحبّ.. والذي أبحثُ عنه منذُ أمدٍ طويل!
والآن الآن..
عندما أقرأ لها هذا العمل الذي يحكي فلسطين.. أشعرُ كأنما أتعبت من بعدها ومن قبلها..
وأظن أنني سأحتاجُ إلى عمرٍ طويلٍ أقرأ فيه لفواحِل اللغة وملوك التعبير لأجد عملًا يصفُ فلسطينَ في ذاكرة امرأةٍ كما فعلت هي!
العجيبُ أنّ العملَ وصف فلسطين وأهل فلسطين كما لم يصفها أحدٌ قبل.. وذلك كله رغم أنّ أحداث الرواية كلها _تقريبًا_ دارت خارج فلسطين.. بل خارج القارة كلها!
لكن الكاتبة _التي هي خير من تعرف كيف تصف النساء_ وصفت امرأةً فلسطينيّة وجسّدت بها القضيّة والحكاية!
لو لم أكن أعرف الكاتبة معرفةً تامّة لأقسمتُ بأيمان الله كلها أنها ولدت عاشت عمرها كله في فلسطين!
لا أصدّق أنّ شخصًا لم تطأ قدمهُ فلسطين مرةً تعرف كيف تصفها بهذه الدقة؟
ليس فقط وصف الأرض.. بل وصف الشخصيّة والهويّة والمقا.و.مة والقضيّة!!
بل وصف اللهجة والردود والحوارات الدائرة بينهم!
فسبحانَ من علَّم ومَلَّك مفاتيح البيان!
لا أنكر أنني في البداية لم أتحمس للرواية كثيرًا كسابقتها..
ظننتُها روايةً مُستعجلةً غير ناضجةٍ نشأت من انفعالٍ آنيٍّ ولّدته الأحداثُ الجارية..
لكنني ومنذ السطر الأول عرفتُ أنّني أمام عملٍ مُتقنٍ سُهِر عليه الليالي وأنفق في سبيله الوقت والجُهد ليخرج بأبهى حلةٍ..
عندما وصلتُ إلى الخمسين صفحةٍ الأخيرة من العمل توقفت..
أغلقتُ برنامج القراءة وجعلتُ أحدق في الفراغ..
هذا عملٌ شاركني الطريق كل يومٍ ذهابًا وإيابًا..
بكيتُ منه وبكيتُ له وهربتُ من مواجهة العالم والواقع إليه.. والآن.. الآن الآن يريدُ تركي؟
تعلّقت بالعمل تعلقًا غير عاديٍّ وأردتُ منه ألا ينتهي..
وبالفعل.. ظللتُ أحارب لهفتي لإنهائه ومعرفة النهاية والخاتمة أسبوعًا كاملًا أقرأ فيه ببطء السلحفاة حتى لا ينتهي.. ثم غلبتني الحبكةُ وانتهى!
انتهى العمل وتركني متخبطةً وحدي بين انبهارٍ واندهاشٍ وشوقٍ وجزع!!
الجميلُ أنّ شخوص الرواية _التي شعرتُ بأنها حيّة تتنفّس_ كانت ممتدّة إلى أعمق ما يكون..
أعمق بكثيرٍ من أن تكونَ محصورةً في جسدٍ واحد..
كل شخصيةٍ فيهم تصفُ كيانًا وركنًّا من أركان القضية.. كل شخصيةٍ فيهم تعبّر عن معنى..
ولا يمكن أبدًا أن تُختَزلَ في شخصٍ وحيدٍ وجسدٍ فاني..
فحبّهان.. التي تمثّل المرأة الفلسطينية الخالدة مهما قُتِلت وأبيدت تظلّ حيّة تتنفّس.. وكأي امرأةٍ فلسطينيّةٍ وكأيّ طائر عنقاءٍ تعودُ لتولدَ من الرّماد والرُّفات لتعودَ إلى منزلها تجمعُ الملابس لتغسلها!!
بالنهاية..
تتعبني رواياتُ د. شيماء..
تعجزني عن التعليقِ عليها وتعجبني حدَ جعلِ كل ما أكتبهُ هُراءً في حقها..
لكنني.. أبدًا لا أستطيعُ التوقّف عن القراءة لها..
حيّا الله وبارك القلم الذي يكتبُ.. والقلبَ الذي ينسجُ.. والعقلَ الذي يفطنُ.. والعِلمَ والفهم والجهدَ والوقتَ والسعيَ... والمقاومة!
حيّا الله الكاتبة💚