الكتاب الذي بين أيدينا هو كتاب لا بأس به، مكتوب بأسلوب صحافي، ويصلح (لأخذ فكرة) عن أوضاع اليهود في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، من خلال محاولة تتبع واستقصاء سيرة الحاخام الأخير لليهود في مصر (ناحوم أفندي).
استعرض الكتاب الطوائف اليهودية المتواجدة في مصر (الربانيين والقرائين)، وأصول اليهود المتواجدين في مصر خلال هذه الفترة، ما بين السفارديم والإشكيناز ويهود البلاد العربية، وتنوع المستوى الاقتصادي بينهم، ويُلاحظ أن أغلب هؤلاء اليهود (المصريين) هم أصلاً مهاجرين إما من الشام أو تركيا (كالحاخام ناحوم نفسه) أو من شرق أوروبا، وأن أغلب اليهود أيضاً – بالأخص الطبقة الثرية – كانوا يتخاطبون فيما بينهم بالفرنسية.
عرضت الكاتبة تنوع موقف اليهود المصريين من الصهيونية ومن إسرائيل، وتساءلت عن موقف الحاخام ناحوم نفسه، ورأت أن موقفه لم يكن واضحاً، وما أميل له من واقع ما قرأت أنه أخذ بالتقية، وأنه لم يكن مناهضاً للصهيونية، لكن مركزه وموقعه لم يدع له مجالاً للتصرف بغير هذا.
من الأمور اللافتة والمحزنة، ما حواه الكتاب من مواقف مخزية لبعض أفراد النخبة السياسية والمثقفة في مصر تجاه القضية الفلسطينية في السنوات التي سبقت النكبة، ومنها عدم الانتباه لخطر تزايد معدلات هجرة اليهود لفلسطين، وذكرت الكاتبة – ولا أدري المصدر - أن النحاس قال للحاج أمين الحسيني (يا أخي لما لا تسوون أموركم مع اليهود عندكم وتريحوننا جميعاً من "وجع الدماغ")!. ولم تؤخذ المسألة الصهيونية مأخذ الجد إلا بعد ثورة البراق واندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
ولكن أكثر الأمثلة التي قرأتها في الكتاب خذلاناً كانت موافقة حكومة الوفد على سفر مئات من العمال المصريين إلى فلسطين كي يحلوا هناك محل العرب الذين أضربوا تأييداً لثورة 1936، كما كتبت الصحف التابعة لحكومة الأحرار الدستوريين عقب أحداث البراق تهدد الوطنيين الفلسطينيين في مصر بالطرد لاتهامهم بإثارة الفتنة الطائفية وتهييج الرأي العام، ودعت للتفاهم بين العرب واليهود.
وكان إسماعيل صدقي مرتبطاً بعلاقات خاصة مع كبار أثرياء اليهود المصريين، وعضواً في مجالس إدارات عدد من الشركات المملوكة لهم في مصر، وكان على استعداد لغض النظر عن هجرة يهودية "معقولة" إلى فلسطين في حدود 50 ألف مهاجر، وعلى صعيدٍ آخر، اعتقل في عام 1925 الوطنيين الفلسطينيين الذين تظاهروا في القاهرة في ذكرى وعد بلفور، وأغلق صحيفة الشورى الصادرة في القاهرة للدفاع عن القضية الفلسطينية، ووافق على اشتراك مصر في معرض تل أبيب عام 1932 رغم المعارضة الشديدة لذلك في مصر وفلسطين.
ولم يكن موقف القصر والأسرة العلوية بالموقف المشرف أيضاً، فقد أنشئت الجمعيات والأندية الصهيونية في مصر وصالت وجالت تحت سمع وبصر الملك فؤاد ومن بعده فاروق، وأعطت إحدى أميرات الأسرة المالكة مزرعتها لتكون معسكراً لتدريب شباب هاتشومير هاتسعير (حركة حراس المستوطنات في فلسطين)، أما الأمير محمد علي باشا توفيق، فكان تعليقه على ثورة البراق: (إذا كانت المشاكل سببها رغبة اليهود في الوصول إلى حائط "المبكى"، فعلى المسلمين في فلسطين أن يبيعوا هذا الحائط إلى اليهود بمبلغ مائة ألف جنيه، وبذلك يريحوا أنفسهم ويريحوا إخوانهم اليهود)، وهي فكرة نتنة ومقترح حقير. وللأسف، فإن النتانة قد تحولت في بلادنا اليوم من مجرد التفكير إلى التطبيق الفعلي!
وعلى صعيدٍ آخر، حرصت الشخصيات الرأسمالية اليهودية بجوار توثيق علاقاتهم بأقطاب السياسة المصرية وإشراكهم في أنشطتهم الاقتصادية، كإسماعيل صدقي وأحمد زيور وعدلي يكن وأحمد عبود، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن يشارك بعضهم في احتفالات يهودية حتى لو كانت مصبوغة بالصهيونية، فشارك زيور في حفلتين للاحتفاء بذكرى صدور وعد بلفور نظمتهما منظمة صهيونية. وقد ظل عدد من الساسة المصريين منحازين لليهود ومتعاطفين معهم، ويروي محمد التابعي في مقال له أن محمد محمود خليل الرئيس الأسبق بمجلس الشيوخ والذي كان معروفاً بصداقته مع العديد من اليهود، اتصل بمكرم عبيد باشا منتقداً ما نشرته إحدى الجرائد ضد صهاينة مصر قائلاً: أنا أؤكد لك يا مكرم أن لي أصدقاء يهود الواحد فيهم عندي أحسن من ألف مصري!
بالإضافة إلى ذلك، فبجوار زيارات بعض أقطاب الصهيونية لمصر – كوايزمان وبن جوريون وغيرهم - للاجتماع مع أقطاب السياسة وقادة الرأي العام بها، فعلى الجانب الآخر، تذكر الكاتبة أن الحاج أمين الحسيني ذكر آسفاً ما رواه له بهي الدين باشا بركات رئيس مجلس النواب المصري عن زيارته للقدس خلال الحرب العالمية الثانية، حين صحبه السكرتير السياسي للوكالة اليهودية لزيارة بعض المستعمرات والمصانع التي أنشأها اليهود في فلسطين، فما كان من بهي الدين بركات إلا أن قال: (يصعب علي أن أصدق ما يشاع عن حركتكم الصهيونية وأنها مؤسسة على التعصب الديني لأن معظم زعماء الصهيونية متحضرون ومثقفون ثقافة أوروبية أو أمريكية)!
وأختم بالموقف الأكثر فجاجة على المستوى الرسمي على حد تعبير الكاتبة، فقد أوفد زيور باشا أثناء توليه رئاسة الوزراء، أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية ليشارك في حفل افتتاح الجامعة العبرية في القدس عام 1925، والذي حضره جيمس بلفور صاحب الوعد المشئوم، مما أثار سخط أهل فلسطين الذين نظموا إضراباً شاملاً ضد زيارته، ونظم الشاعر الفلسطيني إسكندر الخوري هذه الأبيات:
الله اكبر كل هـذا في سبيل الجامعة!
ما تلك جامعة العلـوم بل المطامح جامعة!
إن السياسة أوجدتها والسياسة خادعة
من لندن هرولت تضرم نار هذي الواقعة
يا لورد ما لومي عليك فأنت أصل الفاجعة
لومي على مصر تمد لنا كفاً صافعة
يا (سيد) قد جئتنا وقلوب قومك هالعة
وشهدت جامعة المطامع لأ العلوم النافعة
أرأيت كيف تحيط بالعرب الذئاب الجائعة
لو جاء هذي الأرض (أحمد) قبل يوم الجامعة
لرأى فلسطينا تقيم له المحافل ساطعة
ولهرولت من كل حدبٍ للقاء مسارعة
نشكو لكم منكم بني مصر ظروف الواقعة
أوهمتم الأعداء إنا أمة متقاطعة
لا تشمتوا أمما غدت فينا وفيكم طامعة
وعلى ما في هذه الأبيات من ضعفٍ فني، إلا أن قراءتها في أيامنا هذه تثير الشجون والأسى، وخصوصاً البيتين:
لومي على مصر تمد لنا كفاً صافعة
نشكو لكم منكم بني مصر ظروف الواقعة
والأمثلة المخزية السابقة هي نتاج نجاح المستعمر في علمنة وتغريب النخبة الحاكمة بشكل كامل، وقصور نظر هذه النخبة وانشغالهم في ظل الاستعمار في التفكير في الشأن المحلي والوطني فقط، دون الانشغال بالقدر الكافي بالشؤون المرتبطة بالأمة، هذا بالإضافة للوقوع تحت تأثير العلاقات والمصالح الشخصية، وإحقاقاً للحق فإن هذه النخبة لم تخلُ من أصواتٍ وطنية رفضت هذه المواقف، وأن الحكومات قد اتخذت في النهاية مواقف ضد الصهيونية ولكن للأسف بعد أن اتسع الخرق على الراتق، إلى أن ضاعت فلسطين. لكن هذه النخبة المتغربة كانت منفصلة عن عموم الشعب الذي كان رافضاً للصهيونية ومؤيداً للحق الفلسطيني، وكما ورثت النخب الحاكمة نفس المواقف المخزية، بل وزادت عليها، فقد ورثت كذلك الانفصال عن مواقف شعوبها، التي لا تحكمها وتسيطر عليها إلا بالقمع والاستبداد، ونسأل الله المطلع على قلوبنا ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن يجعل لنا ولإخواننا في فلسطين مخرجاً مما نحن وهم فيه!