#ريفيوهات
"حبة بازلاء تنبت في كفي... تجربة قطر الندى وجديلة الزير سالم "
من بضعة أعوام كثر من يهتم بالتفتيش والنبش حول ذكريات الطفولة وحكاياتها التي حفظناها، يخرج إحداها ثم ينفض عنها ما أحببناه فيها "يعريها بمعنى أدق"، ثم يقول بفخر: كم كنا سذج؛ صدقنا الزيف وجمال النهاية، فاملاؤا عيونكم بالنهايات السوداء التي تليق بواقعنا تماما.
وبينما يدور الجدل- بين من يستنكر ممن تأثر بتلك النظرة فانهدمت ذكريات الطفولة أمام عينيه وضاع ما كان يرتكن عليه أمام واقعه، ومن يرحب لتنسلخ من عقله الرؤى الساذجة لتكون مواجهته مع الحياة سهلة والاحتمالات بسيطة إما أن يواجه ويتحدى أو يستسلم "كتحدي الطبيب مع الموت"- يسقط سؤالا مهما، ما جدوى الحكاية أصلا؟، فإن كانت لتخفيف العبء وتزويد الأمل، ما جدوى وجودها إن كانت ستظهر ساذجة- أو نظرتنا لها- في يوم من الأيام؟ وللبحث عن إجابة فإننا نقتسم مع بطل تلك الرواية حيرته، غير أنه وجد إجابته التي يبحث عنها.
-- نظارة ثأر كليب "عن غشاوة الأعين"
"يا خليلي نادنا لي كليبا
واعلما أنه ملاقٍ كفاحا"
- عدي بن ربيعة "الزير سالم"
- بسبب مقت.ل كليب بن ربيعة "والذي كان مفتتح حرب البسوس المعروفة"، أقسم أخوه على أن يأخذ ثأره ولو كان بأن يمحو قبيلة قات.له، وظل على ذلك ما يقرب من أربعين سنة، يعيش فيها على ذكرى أخيه وثأره، فيخلط واقعه بما يطمح، ولكن طموحه يزداد هيمنة فتسود الرؤية ويختفي الواقع، مما يجعله يخسر كل شيء بل حتى نظرته تتهاوى أمامه فتصبح مجرد أطلال يبكيها كما الأبيات السابقة
❞ لماذا أشعر بالارتباك. الحكايات متشابهة. كلها تدور حول شخصٍ بائس. في الليل يلجأ إلى سريره وهو يتمنَّى ألَّا يستيقظ. لكنه لا يملك لنفسه شيئًا حين يستيقظ في الغد. ❝
-ولأن الحكايات متشابهة، فإن ما يجمع الزير سالم مع قدر بطل الرواية أنهما أبناء التجربة، فهما صدما بوقائع هددت استقرارهما "مق.تل كليب للزير وانت.حار الأم للبطل الطبيب"، ألقتهما ليواجها الواقع فجأة "المتمثل في الحرب للزير سالم ووجود الأب وممارسة الطب لبطل الرواية"، والكل ينظر إليهما بترقب "فالقبيلة تشبه القرية الفضولية نوعا ما" مما يزيد عليهم أعباءهما، فيلجئان لحيلة ترمم ما كان مفترضا أن يكون موجودا، وهنا يجدلان خيالهما المستمد من الواقع مع الواقع نفسه، يركبان تلك الصورة كقطع بازل، وعليه يعيشان وتنبعث فيهما الحركة المطلوبة
-ولكن بمرور الأيام واكتساب الخبرة يتآكل ما صنعاه، تصبح الحقائق واستنتاجات العقل ومراجعاته كفأر جائع يأتي على الخيال ويقرض الصورة "وهنا أتت فكرة أكل الفأر لتوأمة البطل"، لا يشبع حتى يظهر أمام النفس حقيقتها وتوحشها التي تستعين بتلك النظرات "مزج خيال الحكايات والواقع"، فيلجأن "الزير سالم وبطل الروابة" لشيء يؤويهما، يرجعان لحاجتهما التي فقداها فجأة، رحم الأم وما فيه من اتساع وأمن وراحة بين الأحلام والحكايات، فيصنعانه بإيديهما، لا يهم أن يكون مجرد كلمات وقصائد قالها الزير أو خزانة ملابس صماء، المهم أنهما فيه ينزع عنهما أعباء التجربة وتفرد أمامهم الأحداث فيركبوها من جديد على حسب فهمهم، ومنه أيضا يكسرون الخوف من الواقع "كما تغلب الطبيب على خوفه في نهاية الحبكة"، فيخرجان وكأنهما ولدا من جديد، دون أن يعرف أحد أن بها مأواه وخبيئته.
--مأساة قطر الندى "عن زهر البرسيم والإغواء"
❞ لم تكوني سوى زهرة برسيم يا ماما، يترددُ لونها كل صباح بين الأبيض والأصفر، زهرة برسيم مثل آلاف الأزهار اليومية المعتادة التي تبدو مرةً بيضاء وأخرى صفراء أو ورديَّة. لا يُهمّ. لا أحد يتغزَّل بزهرة البرسيم، فيقول لحبيبته على سبيل المثال أنتِ زهرة برسيم جميلة. كل ما يهمُّهم عسل تلك الزهرة، وأُمِّي وفَّرت لهم مهرًا مناسبًا وزيجةً لم تكلفهم شيئًا. ❝
- لا تختلف-وإن تباعد تسلسل الحكاية كثيرا- حكاية الأميرة قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون التي كانت مرمى لحرب سياسية باردة بين أبيها والخليفة العباسي المعتضد، عن حكاية والدة البطل "زهرة البرسيم"، فكلاهما كان يتغنى بجماله المتفرد وسط العامة، وكذلك فهما وقعا في يد صاحب سطوة "لو سلمنا بمخيلة الطبيب عن أبيه الباشا" وكلاهما أيضا كان يعاني من صراع ما "فقطر الندى محصورة بين صراع الزوج والأب، والأم كانت محصورة كذلك بين صراع القرية الضيقة الفضولية والمدينة الرحبة"، وكما أيضا بين هذا وذاك عانا آخر الأمر من تهميش وإهمال، واتخاذهما في أفضل الأحوال غرضا يمرر رغبات كل طرف.
- وسبب ذلك هو وجود شهوة مستترة، ساحرة رغم ما بها من قبح، ورغم ذلك تمتلك من الإغواء، تسلب عقولهم بصيدها "كالطماطم المسمومة للبطل"، وفوق ذلك لها مهابة عالية يخشاها الكل، لكنها تسحرهم للدخول في التجربة وخوضها، كما قالت الأم "غولة مابتشبعش" بفضلها تؤسر الجميلة في فخ غولة أخرى وهي البحث عن موضع الإهمال، وتنسى أن الممنوع مرغوب طبعا
-ولتشابه الحكايات تستطيع أن تلبس على تلك الشهوة أي مسمى يليق بها، سواء كان معنى عام كالحرب شهوة خلابة تستطيع سلب لبي المعتضد وخمارويه، أو شخص بعينه كخالة البطل، فكل منهما من رحم واحدة بائسة نتجت من رغبة استحقت اللعن والطرد في آخر العالم كرغبة ميدوسا أمام بحر بوسايدن "ميثولوجيا"، وكل منهما يحجر ضحاياه لتكون منتهاهم ومنتهى التجربة عندها
--امتداد المفاهيم "عن لعنة الزمار ورومانتيكية الملابس"
❞ نُسلِّم دومًا أن الحكايات تحدث كما هي، لماذا لم أفكر من قبل أنها قد تحدث بصورة معكوسة؟ ❝
-بمرور حكايات البطل في دولابه "أو الرحم المنغرس فيه" تجد مفاهيما تقدم أول الأمر بشكلها الطبيعي الساذج "كاللعنة التي أصابتها الساحرة للأميرة المسكينة، أو البغض والغيظ من الأب والساحرة أو حتى سطوة الموت" ولكن تنقلب شيئا فشيئا، فترى صورتها الممتدة التي تكملها، فتصبح اللعنة آلة لا يقف عندها الزمن بل تغيرهم فحسب وتضعهم في حلقة جديدة مخلوقة لتكسر "كقصة الجميلة والوحش"، أو تجعلهم متقبلين مصيرهم باعتبار أن الموت متغير شكله لزمار له مسحة الملائكة يحمل حلوى أو ذكرى تخلب من وقع عليه القدر، وتنشله من لعنته البائسة "كمأساة الطفل سيد"، ويصبح أمير الحكايات متقبلا على حقيقته ورغم النفور من عنجهيته، وكذلك الرومانسية والتضحية تنقلب لجانبها الأشد وهنا من خيوط العنكبوت، أي باختصار ترى المفهوم بتناقضاته في صورة واحدة، ممزوجة ببعضها فلا يبين منها غير ورقة بيضاء شفافة تظهر سوءة الواقع "كالأب" أو يظهر منها أثر خفيف يزداد كلما ازداد التناقض حدة "كشاش الخالة أو كفنها"، ولذا فالطبيب يكره الأبيض، فلا أحد يحب الصور بامتدادها معا
ملاحظات:
-أعجبني مزج بعض من تجربة الكاتبة الذاتية "عن عملها كطبيبة" على الحبكة وتوظيفها بشكل مؤثر "كقصة السيد والطفل الصغير"
-لم تعجبني كثرة التشبيهات والتمثيل، كان مشوشا لقراءة بعض القطع، لكن منها ما أعجبني وأفاد في الحبكة كتشبيه الفقمة وعروس البحر
الخلاصة: رواية ممتعة بها مزج مؤلم جميل بين الواقع والخيال، بها مناظرة قوية بين الحكايات والحاضر