2023
كان التحدي البارحة أن أنهي 228 صفحة في يوم واحد.. وأنا الراكدة التي لم أقرأ منذ زمن.. القراءة لا تنهك إنما التوغل في شرايين الرواية دون أن تخشى كرياتها البيضاء.. وكانت ماء مسكوباً على أرض ظمأ.. ومنذ الفصل الأول تشدك الفكرة الفريدة لحكاية قرية المسفاة بشيابها وشبابها ونسائها.. بجبالها ومزارعها وآبارها وحاراتها، بالممرات الضيقة والمنحدرات الشديدة.. بالشجر وصلابة الحجر.. فكأننا أمام تقرير غير شعري لحقيقة شعرية..
لم أكن أجرؤ على تركها بعد الفصل الأول.. فقد كانت تدافع عن نفسها دون مرافعة.. وتشدني بألق نحو التبختر في جنبات كل التفاصيل بجوار المناجير والنخل والتل.. في حقيقة أن الحي يخرج من الميت.. ليغدو غريباً في أرضه.. في الطبل الذي يدق هديراً في رأس مريم بنت حمزة ود غانم فتهيم وتغيب من الدنيا وهي فيها.. تقديم ل 10 شخصيات في الفصل الأول دون أن يضيعني السرد أو خط الكتابة..بداية من الطارش حمدان بن عاشور وانتهاء بعائشة بنت مبروك خالة مريم. وما بين عماتها، أمهاتها العوض، وزوج ًمتروك، ووليد لا يعرف قدره.. جلست أحمل قلمي الرصاص وأوراقاً جانبية.. أرتشف القهوة لأقول الله الله كلما اصطدت عبارة بليغة أو وصفاً بديعاً في فقرة.. لينتهي فنجان قهوتي بعد دقائق عشرين. وما بين الضجيج والسكون تقف مدهوشاً لا تريد أن تستفيق.. من جمال الهوة العميقة.. ومن التنزه في طبايع أهل القرى الجبلية.
أنت أمام فكر مستقل بشكل فاضح واضح.. فأنت "عطشان إلى أن تلقى لماه".. وأنت أمام انبعاث جديد للأمكنة بعد جائحة.. وأنت أمام ترقب لتطور شخوص الرواية وأبعاد الأحداث فيها.. أنت هناك بمعنى الكلمة بين الأفلاج والسيل وبين الطمي والمحّل.. أنت بين كلمات عمانية بها رائحة صمغ ولبان.. بين بوه، و ود الجنية، ومو مستوي.. ولزمة الشين في ربش وقلبش وزوجش وولدش.. بين الهدم والجرف والغمر وبين الترميم والاستصلاح والخصب.. فكأنه جناس وطباق وتورية.. تتربص بحواسك الخمس من كل ناحية.
بلغ القافر العشر سنوات في الفصل الثالث.. وكأنّ أهل الأرض يكلموه.. " والناس فهذي البلاد ما يعجبهم شي.. من الخير يصيحوا ومن الشر يصيحوا".. وأن الموت لا تمنعه الطلاسم عندما يجىء.. فتعرف أكثر عن تجذر المعتقد عند أهل القرى.. فلا رضى ولا عتب فالأرواح مثقوبة.. يختلط بدمائها معتقد السحر والعين وأم الصبيان وحب المؤامرات.. أناس لا تقوى على المحافظة حتى على نعمة وجود "ود الغريقة" بينهم. هكذا هي المدن أيضاً في الرمزية.. فقط هو الاختلاف الذي يفسد كل القضايا ولا عزاء للود.
مرت 90 دقيقة ووصلت إلى الفصل الثامن.. بلغ عدد أسماء الشخصيات التي رصدتها حتى الآن 21 .. كنت اتبسم لشعاع الكلمات الحانية التي تصف علاقة كاذية مع سلام وعلاقة اسيا مع إبراهيم.. القفر الكثير استوجب الحنين إلى العواطف فأتت في وقتها عند كل زاوية في الرواية.. تعي مثلهم أنك ملفوف في صمتك لكن حناياك ترقص.. دون الحاجة إلى أن تحضر الوعري ليفلق الصخرة بعجين ثوم. كف الناسُ عن أذية القافر.. فدفن الألم في رماد قلبه.. وأصبحت "نصرا بنت رمضان" هي كل ما يسمع ويرى.. استوت حرمة وكبر راعي المسفاة.. ليجمعهم القدر من دون الناس.. في زمن تتغرب فيه الروح وهي في أوطانها.
وبينما كانت الفصول الأربعة.. الصيف والخريف والشتاء والربيع تتبختر أمامي في 4 فقرات عند الصفحة 208.. لتلخص قصر الانتظار الطويل لنصرا... بين أن تغزل السمدي لتتبعه بالعفريت والشللي ثم النوّاح والكثير الكثير.. ليفتح باب الأبدية في ارتباط الأرواح المتعبة.. وتحتفظ الذاكرة الوفية بكل شيء. فحبل الدوم قاطع الحجر.
أنهيت الفصل الأخير بعد 300 دقيقة.. وأمامي 30 شخصية أو أكثر.. أتشبث بهم ولا أضيعهم.. عيناي حمراوتين.. أردد "ماي ماي" والكأس إلى جواري.. تذكرت أغنية قديمة للبناي كان والدي يسمعها تقول " الدار قفرا والمزار بعيد والشوق سيل دمعتي عالباب".. وما بين الدمع والشوق والماء تخيلت تمددي تحت شجرة سدر كبيرة إلى جوار شلال ماء في قرية المسفاة.. ومنيت النفس أملاً برحلة قريبة إلى عُمان الحبيبة.
قوة الرواية في متعة ما تضمنته من أفكار جديدة.. من استئناس الفرادة وتسامحها مع النكران.. من الطاقة المتسربة تحت جلد كل تفصيلة في السرد.. وكل قصد بعد معنى.. في أن ما كتب يدافع حقيقة عن وجوده دون الحاجة إلى مجادلات.. في أن البعد قرب.. وأن الموت حياة.. وأن للجنون شؤون.. وأن حكايات النبذ والتفضيل والاختلاف هي رحيل وغربة أبدية.. وهي موجودة في كل مكان وزمان.. لكنها تفوقت وسمت في تغريبة القافر..
د. بسمة السيوفي
جدة المملكة العربية السعودية،
21 ابريل 2024