يبدأ الحاضر دائماً من الماضي ..
كان هذا شعار البداية حينما بدأت " سامية المهدي " الحديث عن تقلبها مع الحياة حتي انتهائها بالزواج من " سعيد القاضي " ، كانت تُقارن بين الماضي والحاضر بتفاصيلهما الدقيقة المُنهكة بالنسبة لسيدة رقيقة مثلها ، أو كانت رقيقة كما تقول.
وفي إطار درامي إجتماعي مصحوب بلغة سردية أنيقة ، ندخل إلي أزمنة بداية التسعينات الغنية بالأحداث والتفاصيل المُحرضة علي الكتابة والمُتماسة مع الطريقة السياسية لإدارة الدولة وقتها.
كان يريد سعيد القاضي أن يصل إلي أبعد مدي من النفوذ المُقترن بالسلطة ، ظن أنه يمتلك أوراق اللعبة كاملة ، لكن في لحظة وبلا أي مُقدمات وجد نفسه عارياً أمام خصومة ،
السياسة هكذا يا صديقي لكل الأباطرة حد ونهاية.
ومن نافذة السياسة التي عبرت عن التوغل الكبير لأتباع الحزب الحاكم حينها وصراعهم الأكبر للأقتراب أكثر من السلطة ، إلي نافذة المُجتمع المقيت المنفي ، الذي تحدثت عنه ومثلته " مديحة الوراق " بمنتهي الوضوح والإجادة.
وغير ذلك فقد أعجبني عُمق المعني في تفاصيل العلاقة بين سامية المهدي وسعيد القاضي.
هل عقل المرأه يعمل بنفس طريقة وآلية عمل عقل الرجل ؟!.
( أمازلت تُحبني ) سألتها سامية لـ سعيد فأجابها بجفاء أنه لم يعد يحب أو يكره ، وحينما توسط جلسة لأصدقاءة وكان كل منهم يحكي عن مأساتة مع زوجتة ، حكي سعيد لهم الموقف فسألة أحد الحضور : لما لم توافقها أو تريحها بأي إجابة إعتيادية كي تطمئن ؟! كان ينبغي أن تقول : نعم أُحبك عندها سينتهي الأمر.
أستفز هذا التحليل السطحي سعيد فأجابة أن السؤال نفسه هو مجرد مفتاح لأشياء أخري ، ولا ينتهي الأمر عند الإجابة بنعم او لا كما تظنون ، تدور في رأس المرأه مطحنة من الأسئلة لا تنتهي ، وقد تعطيها إجابة من المفترض أن تُريحها لكنها ستبدأ في تفعيل نظرية الشك واحتمال الكذب.
يبدو أن العلاقة بين الرجل والمرأة تشغل عمرو دنقل كثيراً ،
بين حازم في نادي الأربعين وسعيد القاضي في فيلا القاضي علاقات فائرة وفوضي مشاعر حائرة غير مفهومة ، يتوغل فيها الكاتب بعين الخبير ، محاولاً تشريح الحالة داخل الإطار المحدد لها في العمل.
كل ذلك دار في فلك إجتماعي بعيد كل البعد عن الشخصية محور الرواية ، وهو ما يستحق علية الكاتب الإشادة ، أن تصنع حكاياتك المُتصلة وكأن كل قصة مُختصة بذاتها ولكنها في نفس الوقت مُترابطة بشكل كبير مع باقي الأحداث.
كان " رجب عودة " يظهر دائماً في الظل ، يُشار إليه في مواضع بسيطة ليس فيها زخم ولا ضوضاء ولكن بعد أن انتهت عنده الحكايات الأخري أصبح هو صاحب الحضور الأبرز.
ورغم أن الكاتب نفي في البداية أي تشابه بين الكتابة والواقع
ولكن لا يخفي علي القارئ أن رجب عودة هو من ينوب في الحقيقة عن فرج فوده الذي قتل علي ايدي الإسلاميين في التسعينات ، لم يذكر عمرو دنقل علي لسان رجب عودة أية أفكار ، لم يُفرد مساحات لعرضها والخوض فيها لم يكن هذا هو المقصد.
لكنه ومن خلال تفاصيل العمل التي كتبها بإتقان ، أراد أن يقول أن الكلمة لا يُمكن أن تُقابل بالطلقة ، وأنه لا يوجد مصوغ عقلاني ولا ديني للإقبال علي هذا الفعل ، وهنا تذكرت
واقعة الدكتور " خالد " الذي ظهر في موقف بديع يمثل فيه العقل ، العقل فقط ، حينما أصدر كبير الجماعة حكماً بارتداد رجب عودة نطق خالد المسكين مُستفهماً عن من أصدر هذا الحكم ! فكانت الإجابة حاضرة بشك مُريب : مشايخنا وعلماؤنا ، لم يزد خالد علي أنه قال أنه يقرأ مقالات الرجل الذي تريدون إهدار دمة وحتي الآن لم أجد فيها شيئاً صريحاً يستدعي الاقدام علي هذا الفعل !.
أخطأ خالد حينما حاول أن يتحدث مع هؤلاء بالعقل ، هم ليسوا بالأساس أصحاب رأي ولا حُجة هم فقط يفعلون ما يؤمرون دون تقصي أو تحر.
كان الحديث سجالاً بين أصوات مُحددة في الرواية حتي وصل بنا الكاتب إلي " كريم البيضا " الذي كان بالفعل نموذجاً للإنسان الفارغ السهل التلاعب به.
عُرضت حياته بنسق مُثير مُتماشي تماماً مع سياق الأحداث ومُناسب جداً للدور الذي وُضع له في النهاية.
الرواية ليست مُنحازة لأفكار فرج فوده لأنها لم تعرضها داخل العمل ، ولكنها مُحرضة بشدة علي تقفي أثر الرجل والقراءة عنه وله ، وهو الذي قُتل من أجل كلمة قالها ، حتي وإن كان قاتله لم يقرأها بالأساس..
كتابة تستحق أن تتوج بالنجمات الخمس.