اقتباسات باسم خندقجي

ثمَّة أحياءٌ يُقتلون حين تُغتال قلوبهم بفاجعة ليصبحوا شهداء شوقٍ وعشقٍ ووله.

لا حياة في رام الله والبيرة هذا الصباح. لا حياة إلَّا لذوي الأسرى وأنفاس أمّ عدليّ الثقيلة.

ليس ثمَّة معنى لاسم المخيَّم الفلسطينيّ إلَّا عندما تُرتكب فيه المجزرة، ليصبح اسمًا من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانيَّة، يصبح اسمه مخيَّم تلّ الزعتر أو صبرا أو شاتيلا أو جنين أو الشاطئ.

هي القدس، ولكلِّ وقت في القدس قُبلة وهي قِبلة كلّ الوقت..

فما التاريخ في النهاية سوى تخيّلٍ مُعقْلَن!

بل أنا هو المسخ الذي وُلد من رحم النكبة، والأزقَّة والحيْرة والغربة، والصمت: صمت أبي وموت أمِّي، ومطاردتي في أزقَّة المخيَّم بلقب السكناجي. ولدتُ من رحم التهميش والتصنيف وسجنك أنت يا مراد.

أيُّها المغفل، أنا أنتظر عمرًا بأكمله من أجل الخلاص من هذه الهويَّة.. وأمَّا أنت، فقد خسرت عمرك كلّه لترتدي هذا القناع! هذه الهويَّة التي نكبتني.

صرخ الصوت بعربيَّةٍ ركيكةٍ صدئة: «عدد. عدد»، لأنتفض حين لمحتُ ذلك المسخ المخلوق من الحديد والإسمنت والأسوار العالية، إذ هو سجن مجدو الاحتلاليّ، أهكذا يقومون بإحصائكم يا مراد. عدد عدد. لينزعوا عنكم الإنسانيَّة صبحًا وظهرًا ومساء. يحصون أجسادكم وأنفاسكم وآمالكم بالحرية

إنَّ النكبة يا صديقي هي النصب التذكاريّ للمحرقة. هذا ما تشهد عليه، على الأقلِّ، هذه الأشجار من حولي، وهي أضحت شواهد لقبور منسيَّة وضحايا مهمَّشين كانوا في يومٍ من الأيَّام سكَّان قرية أبو شوشة المنكوبة.

أنا أريد أن أدركك لكي لا أصير مثلك.. أريد أن أستخدمك لكي أتحرَّر منك.

أُقبل على الحكي معك وإليك الآن بلهفة. فهل تعلم أنَّ هناك فرقًا بين الحكي والكتابة؟ طبعًا أنت تعلم الحكي كلام والكتابة كلمات ولكنْ يوجد فرق آخر شاسع. فرق شهرزاديّ يا مراد فالحكي حياة أنا أحكي إليك كي أحيا مثل شهرزاد

من العار أن نحتفل كلّ عام بذكرى النكبة على أنَّها مجرَّد حدث تاريخيّ مضى النكبة لم تنتهِ بعد. رحمها ما زال خصبًا وقادرًا على الإنجاب في كلِّ لحظة إنجاب القتل والتشريد والتطهير العرقيّ والإبعاد والتهجير والمصادرة والتدمير والإقصاء والتهميش والتصنيف و الالتباس و السلام المزيف .

ما به نور الحائر ما بين نور وأور؟ فهو منذ الصباح على هذه الحال الملتبسة. همسٌ متبادلٌ ممسوس مجنون ما بينهما. نور وأور وأور ونور. هاله ما يحدث له.

يُدرك نور الشهديّ أنَّه لم يتحرَّر بعد من الحُجرة. ثمَّة حجرة في المخيَّم مشيَّدة من الأزقَّة، ثمَّة حُجرة أخرى هنا في القدس مُشيَّدة من الاحتلال والقمع والانتهاك، فما الذي يتوجَّب عليه فعله إذن؟

القبَّة طرحة القدس ومسجدها هذا الهائم في اللازورد والفيروز، وصخرتها قلبها النابض بالقداسة و دماء الأرض و السماء معًا.

هي امرأةٌ، هي المرأة التي خُلقت من دماءٍ وسماءٍ وإِسراءٍ ومعراج، وأنبياءٍ وملائكة، وشياطين وملاعين، وحروبٍ وحصارات، وأهوالٍ وبركاتٍ ولعنات، هي امرأةٌ حوصرت على مدار أقدارها المتعدِّدة بأكثر من ثلاثين حصارًا، وما تفتأ تُعيد تشييد بيوتها من خرابها

فالقناع لم يعد بالملامح فحسب، بل امتدَّ ليسري في هويَّته ويمزجها بهويَّةٍ أخرى، متسائلًا في سرِّه حينذاك:

‫ - هل سأرتكب حقًّا هذه الشخصيَّة الصهيونيَّة الأشكنازيَّة؟

أرجو أن تتخلَّى عن تلك العبارة المقيتة حول السجن الأكبر والسجن الأصغر.. أنت لا تعرف معنى السجن الأصغر يا نور.. السجن أفظع واقعة في الحياة.. غربة حديديَّة صدئة.. وأمَّا السجن الأكبر فأنت من تحبس نفسك به.. أنت من تصنعه..

كانت العربيَّة لغة قلبه، والإنجليزيَّة لغة عقله، والعبريَّة لغة ظلِّه وملامحه الأشكنازيَّة؛ فأصبحت الملامح قناعًا يرتديه، عندما كان يبيع طاقة عمله في الأسواق والميادين الصهيونية.

مهدي الشهديّ، بطل الانتفاضة وسيِّد أزقَّة المخيَّم، والمطارد الذي لقَّن أعداءه دروسًا في المقاومة، بات نضاله عنفًا وثورته إرهابًا، ومعاناة اعتقاله وحرمانه من مساندة زوجته وحبيبة قلبه في احتضارها ولوعة أمّه، ويُتم ولده الوحيد، كلّ هذا أمسى هراءً وقمامةً في نظره.