أدمنَ بعدَ ذلك التشبّث بأحذيةِ سجّانيه كلّما دخل إليه أحدهم بقطعةِ الخبزِ اليابسة. توسّلهم راجياً بكلّ العباراتِ التي أسعفته بها مخيّلته. أكّد استعداده تنفيذ كلّ ما يطلبونه. شرح لهم أنّه وحيدٌ ولن يكترثَ أحدٌ لأمره إن كانت الغاية هي الحصول على فدية. وباستثناء الركلات الحاقدة والشتائم، لم يحصل على كلمة من أحدهم. وحين استحلفَ أحدهم أن يقتلهُ فوجئ بضحكه الفاجر الشامت وهو يقول: ”سنجعلُ الموتَ حلمكَ الوحيد وسنعملُ جاهدين ألّا تبلغه يا ابن القحبة“.
أحسَّ بالاختناق وبانقباضِ عضلةِ قلبه كمن يهوي من ارتفاع شاهق بسرعة كبيرة نحو هوّة سحيقة. تحوّل الانتحارُ هاجساً وحيداً يتملّكه، وإذ عدِمَ وسيلةً تبلغه إيّاه وسط سواد يزدادُ قتامةً فكّر أن يبلغهُ بالرغبة. استعادَ قصص أناس قرأ أنّهم بلغوا الموتَ حين قرّروا أن لا معنى لبقائهم. أمضّه شعورٌ مريرٌ بالخذلان بعد ذلك، ليس لفشله بالأمر، بل لما يعنيه ذلك من رغبة دفينة تدفعه إلى التشبّث بحياة لطالبما جهَر بتخليه عنها.
قبعة بيتهوفن > اقتباسات من رواية قبعة بيتهوفن
اقتباسات من رواية قبعة بيتهوفن
اقتباسات ومقتطفات من رواية قبعة بيتهوفن أضافها القرّاء على أبجد. استمتع بقراءتها أو أضف اقتباسك المفضّل من الرواية.
قبعة بيتهوفن
اقتباسات
-
مشاركة من إبراهيم عادل
-
معه فقط عرفتُ كيفَ تسكن المدنُ محبيها
مشاركة من Ghada Moussa -
المدنُ وجوهٌ. ليست شوارع وعمارات ومنشآت. هي وجوهُ أبنائها ترتسمُ ملامحهم في أركانها فتغدو صورةً عنهم. هكذا تبدّلت دمشقُ من مدينة قلقة متوجّسة لعقود طويلة إلى مدينة بائسة متغضّنة محكومة بالقهرِ واليأس تفوحُ من كلّ مسام فيها روائحُ الموت
مشاركة من Ghada Moussa -
يسعى الطغاةُ لتكريسِ الرداءة وسيلةً لتحويلِ البشرِ إلى قطعان يسهلُ سَوقها
مشاركة من Ghada Moussa -
ستنتهي الحربُ يوماً، وحتى ذلك اليوم سيبقى الفقراءُ وقوداً وجسوراً يطؤها المتصارعون في طريقهم نحو غايات وحدهم يعرفونها بدقّة.
مشاركة من إبراهيم عادل -
وعلى الغلاف الداخليّ للروايةِ، قرأ ما خطّه بلون أخضر:
ثمّةَ رابطٌ عضويّ بين الديكتاتوريّة والفنّ الرديء. ترتجفُ العروشُ أمام مقطوعة موسيقيّة مصنوعة بإتقان. يسعى الطغاةُ لتكريسِ الرداءة وسيلةً لتحويلِ البشرِ إلى قطعان يسهلُ سَوقها.
كان يكابدُ آلامَ بطنه حين سقطت من أحدِ الكتبِ ورقة يانصيب مملوءة كلمات كُتبت بحروف متناهيةِ الصغر راح يقرؤها بصعوبة بالغة:
ستنتهي الحربُ يوماً ويعودُ الناسُ إلى ديارهم التي أعيدَ إعمارها لمصلحةِ تجّارِ الحرب وزعمائها. سينبري الكتاب لتأليفِ روايات عن الحرب والتشرّد والنزوح والموت. سيصنعُ السينمائيون أفلاماً تصفُ بشاعةَ الحرب وأهوالها. كثيرون سيعودون من بلدانِ اللجوء يرطنون بلغات أجنبية حاملينَ معهم أولاداً جاؤوا للتعرّف إلى بلدِ آبائهم. سيختارُ بعضهم البقاء مع حرصهم الشديد على جوازات سفرهم الأجنبية فهم لم ينسوا أن كثيرين ابتلعهم البحرُ المتوسّط لأنهم لم يمتلكوا جوازات مماثلة. ستنتهي الحرب يوماً، .... وحتى ذلك اليوم سيبقى الفقراءُ وقوداً وجسوراً يطؤها المتصارعون في طريقهم نحو غايات وحدهم يعرفونها بدقّة.
مشاركة من إبراهيم عادل -
المدنُ وجوهٌ. ليست شوارع وعمارات ومنشآت. هي وجوهُ أبنائها ترتسمُ ملامحهم في أركانها فتغدو صورةً عنهم. هكذا تبدّلت دمشقُ من مدينة قلقة متوجّسة لعقود طويلة إلى مدينة بائسة متغضّنة محكومة بالقهرِ واليأس تفوحُ من كلّ مسام فيها روائحُ الموت. تضاعفت غربتهُ فيها وهو يلحظ كلّ ذلك بطريقة مختلفة بعد عودته إلى المقهى إثر شهرين أمضاهما حبيس جدران منزله. وإن كانت الأمكنةُ هي ما يبقى من أثرها بعدَ الفقد، فقد أدركَ أنّه فقدَ مدينته التي صارت آثارها نظرات هائمة تائهة في وجوه بائسة تروحُ وتجيء من حوله كمن يتخبّط وسط مساحة ضيّقة من موت محتّم.
استعادَ عشراتِ الوجوه التي حفظ ملامحها وإيماءاتها على مدى السنواتِ الماضية. وجوهٌ أدمن التمعّن فيها رغبةً منه في حفظها من التلاشي. وإن كان قد تعوّد في الماضي وجوهاً تمنحُ المقاهي التي يرتادها ألفتها لحضورها الدائمِ فيها، فقد شهدَ في السنوات الأخيرة تبدّل الوجوه كلّ يوم. وجوهٌ تختفي لأنّ الموت أدركها سريعاً، وأخرى لأنها حظيت بفرصة اختبار أمكنة جديدة، وقلّةٌ نادرةٌ تواظبُ الحضور بملامح مشوّهة يصعب معها التعرّف إليها، ودوماً ثمّةَ وجوه جديدة مستعدّة لملء الفراغات كأنّها تنتظم في طابورِ انتظار طويل أمام نافذة الحرب المشرعة للرهان على أرواح مجهولة المصير.
مشاركة من إبراهيم عادل -
كانت هي تفردُ جناحين من أحلام طفولية تجوب بهما العالم بوصفه مساحةً رحبةً تبتغي خوضَ غمارها بكلّ ما تملكه من حيوية مسلّحةً بأنوثة هائلة وحسّ فكاهي قادر على السخرية من كلّ شيء. حتّى القراءةَ، الصنعةُ الوحيدة التي يتقنها ويأتي عليها بشغف، لم تسلم من سخريتها.
- لن أبدّد وقتي في قراءةِ حيوات الآخرين. الحياة قصيرة وأرغبُ اختبارها بنفسي.
لم يناقشها في الأمر. ابتسم معجباً بما قالت إعجابَه بكلّ ما تفعله من انتعالِ الأحذيةِ ذات الكعوب العالية إلى ارتداء الملابس التي تُظهرُ مفاتنها حدّاً تتوارى معه عيوب الجسدِ فتغدو عصيّةً على الملاحظة ما لم تسخر هي منها علانيةً، الأمر الذي كانت تفعلهُ دوماً، وصولاً إلى قولها إنّ الحياة ليست إلّا جملة من التفاهاتِ نلفّقُ لها معانيَ كثيرة لنوهمَ أنفسنا أننا لسنا مخلوقات بائسة. ويومَ عرضَ عليها أحد أصدقائهِ، وهو طبيب عيون فُتِنَ بها أيضاً، أن يعالجَ عينها المصابةَ قائلاً بإمكانية استعادة لونها الطبيعي تقريباً وربّما يمكنه تصحيح نظرها بعض الشيء أيضاً، فوجئ برفضها ضاحكةً: ”لن أتدخل لإصلاحِ أثرِ الحياة فيّ. عيوبي هي حكايتي“.
مشاركة من إبراهيم عادل -
مع نجوى كان الأمرُ مختلفاً. كانت بمثابة جائزة حصل عليها بغتةً دون انتظار. اندفعت نحوه دون نفور أو توجّس مسبق. صارت بمنزلة حياة موازية تضبطُ بحيويتها إيقاعَ حياته التي تمضي برتابةِ حلم لا انقطاعات فيه حتى أنّه صار قادراً، في الثلاثينات والأربعينات من عمره، وحتى قبل وفاته بلحظات وقد جاوز السبعين، على سماع صوت الطفل الذي كانه، وتذكّر أحلامه الصغيرةِ التي لم تتعدَّ يوماً فرحةَ تسجيل هدف في مباراة كرةِ قدم ينقلها التلفاز، أو أن يقرأ اسمه مطبوعاً على غلافِ كتاب من تأليفه. سيكون دوماً قادراً على العودةِ إلى ذلك الطفل ومجالسته عندَ عتبةِ بيتهم القديم متحدثاً إليه عن كلّ ما يفكّر فيه، معتذراً له عن بلوغه مستقبلاً لا يشبهُ أحلامه الصغيرةَ وتحوّله إلى نسخة من أولئك الرجال الذين نفرَ الطفل دوماً من هيئاتهم. كان يشعرُ شيئاً من الطمأنينةِ حين يبتسمُ الطفل ابتسامته الساخرة التي تشي بإدراكهِ كلّ ما آلت إليه الأمور وتمنحهُ شعوراً بأنّه ماضي الطفل وليس مستقبله. فيبتسمُ متطلّعاً إلى طفولته كمستقبل يمضي نحوه ببطء وبخطوات رصينة.
مشاركة من إبراهيم عادل
السابق | 1 | التالي |