المدنُ وجوهٌ. ليست شوارع وعمارات ومنشآت. هي وجوهُ أبنائها ترتسمُ ملامحهم في أركانها فتغدو صورةً عنهم. هكذا تبدّلت دمشقُ من مدينة قلقة متوجّسة لعقود طويلة إلى مدينة بائسة متغضّنة محكومة بالقهرِ واليأس تفوحُ من كلّ مسام فيها روائحُ الموت. تضاعفت غربتهُ فيها وهو يلحظ كلّ ذلك بطريقة مختلفة بعد عودته إلى المقهى إثر شهرين أمضاهما حبيس جدران منزله. وإن كانت الأمكنةُ هي ما يبقى من أثرها بعدَ الفقد، فقد أدركَ أنّه فقدَ مدينته التي صارت آثارها نظرات هائمة تائهة في وجوه بائسة تروحُ وتجيء من حوله كمن يتخبّط وسط مساحة ضيّقة من موت محتّم.
استعادَ عشراتِ الوجوه التي حفظ ملامحها وإيماءاتها على مدى السنواتِ الماضية. وجوهٌ أدمن التمعّن فيها رغبةً منه في حفظها من التلاشي. وإن كان قد تعوّد في الماضي وجوهاً تمنحُ المقاهي التي يرتادها ألفتها لحضورها الدائمِ فيها، فقد شهدَ في السنوات الأخيرة تبدّل الوجوه كلّ يوم. وجوهٌ تختفي لأنّ الموت أدركها سريعاً، وأخرى لأنها حظيت بفرصة اختبار أمكنة جديدة، وقلّةٌ نادرةٌ تواظبُ الحضور بملامح مشوّهة يصعب معها التعرّف إليها، ودوماً ثمّةَ وجوه جديدة مستعدّة لملء الفراغات كأنّها تنتظم في طابورِ انتظار طويل أمام نافذة الحرب المشرعة للرهان على أرواح مجهولة المصير.
قبعة بيتهوفن > اقتباسات من رواية قبعة بيتهوفن > اقتباس
مشاركة من إبراهيم عادل
، من كتاب