بدأ كتابه هذه المرة ببداية مختلفة فهاهو يجلس فوق صخرة على شاطئ البحر وتحديدا في المكس اى انه كان هنا يوما ما في مدينتي و يسرح مع شعور الوحدة و جلوس الفرد مع نفسه ثم ينتقل بافكاره الى جبروت البحر و مقارنته باستسلام البر للانسان اما البحر فحتى ان لم يبتلع من يخدعه غروره فهو يتركه يصطدم في جبل جليد فيتحطم الى فتات كما سفينة تايتانيك.
نرى في الافلام القديمة لهفة الابطال على وصول ساعي البريد لما يحمله لهم من اخبار او اطمئنان على قريب و اذكر ان والدي رحمه الله كان يفص علي انتظارهم لأى بريد يطمئنهم على عمي في حرب اكتوبر ، فساعي البريد اذا لعب دورا هاما في حياة البشر قديما.
و قد حاول احمد امين تخمين سبب فرحة الناس عند وصول بريد يخصهم و انا اميل اكثر إلى شعور الاشتياق لمضمون بريدهم لذا فقد امتلك الاثرياء سكين فتح البريد بمنازلهم و لكني تفاجئت ان كثرة البريد يعد واحد من براهين رقي الامم ، وقد تذكرت قرب القراء من الادباء و متابعتهم مباشرة ببريد الجمعة الذي كان ينشره عبد الوهاب مطاوع و ينتظره القراء بفارغ الصبر.
ترك المؤلف في نهاية مقاله عن ابي العبر الحكم للقارئ ليحكم على ابي العبر فيما فعله في العراق عندما حاول ان يقزل شعرا فوجد نفسه وسطا بين ابي تمام و البحتري وهو لا يرضى بالوسط وفي رايي ان المسألة دوما عرض و طلب كما قال هو ❞ لو نفق العقل لعقلت، ولو راج الجد لجددت، ولكن حَمق الناس فتحامقت. ❝ فماذا لو كان جرب الهزل و الضحك فتضاحك منه الناس و وسخروا منه ؟ بالتأكيد كان وقتها سيعيد التفكير في قراره و لكن الاموال امطرت عليه من كل حدب و صوب و شهرته تجاوزت العراق ، فهل كان عليه وقتها ان يتوقف؟! فعليا هو لم يرتكب فعلا محرما و لكنه حاول و الناس قبلت.
يشكو المؤلف من نقص الحب في الشرق عنه في الغرب ، هذا الحب الذي يرى من وجهة نظره انه ان وجد بمقدار زيادة لحل السلام في العالم و ندرت الحروب و تحسنت مظاهر الحياة في كل امة فالحب اساس للتعاون بين افراد الشعب نفسه و ايضا يسمح للقلوب ان ترى غيرها بنظرة إيجابية مما يساعد على رقي الامم.
اتفق مع الفكرة بقدر ما و لكن يتردد سؤالا على ذهني هل ممكن ان تحب الامم بعضها حقا؟! هذا ليس بالامر اليسير و لكنه يحدث قليلا .
وصور احمد امين في مقاله لعب الورق باللعب في الحياة فكل انسان يمتلك مقوماته وظروفه الخاصة به و لكن نجاحه و فشله في الحياة ليس له يدا فيه فعليه ان يحاول التعامل بما يملك فحسب.
وقد لاحظت ترك الامر للقارئ للمرة الثانية في الحكم علي الرابح في هذه الجلسة اذا كان الرابح في لعبة الورق ام هو بمقاله هذا ، فالاديب الاريب قادر على استدعاء ملكته الادبية أينما كان ففي رايي ان الرابح الاكبر هنا هو القارئ الذي استمتع بقراءة مثل هذا المقال.
وكما عقد مقارنة بين الدين الحق والدين الصناعي واوضح الفارق بينهما فالدين الصناعي ما هو الا حركات وايماءات دون اى روح ليس له قيمة و لا معنى اما لدين الحق فهو الدافع لتحريك كل نفس غي الحياة و من دونه فالحياة باكملها بلا قيمة ، فقدتفاجئت حين عقد مقارنة ما بين ادب الروح وادب المعدة ، فالأول ليس به عجب اما الثاني فمصطلح غريب يستأهل الاطلاع والقراءة،. فادب المعدة هو كل ما كتب من اجل المال او المديح والهجاء المبالغ فيه اما ادب الروح هو ما يخرج من العاطفة و يكتبه الاديب من داخل نفسه دون السعي الى مصلحة ، اذا فحسب الغاية يتم تحديد اى نوع الادب.
وهناك ايضا ادب التطفيل الذي كتب فيه عن الطفيليين وقد اوضح عدة أمثلة في الكتاب سواء في العصر العباسي او ما يليه و مع انحدار الادب من عصر الى اخرى و بمقارنة النسب بينهم فإن ادب المعدة اصبح للاسف ذو نسبة عالية للغاية.
"وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة" شاعت هذه المقولة انها تخص الزوج و زوجته و لكنها في واقع الامر تخص المرأة كأم او زوجة او ايا كانت و هذا ما كتب عنه في مقاله حتى إنه أطلق على دور المرأة في حياة الرجل مستودع الذخائر الذي يخرج منه الرجل الحقيقي كما طرح امثلة كاسماء بنت ابي بكر و هند بنت عتبة عن تشجيعهما لاولادهما الذي خرج منهما معاوية و عبد الله بن الزبير.
كتب من قبل في احد مجلداته عن نعمة الالم فمن دون الالم فليس لاى متعة مذاق و هذه المرة كتب عن المصائب التي قامت عليها امم و شعوب و تحول اطفال الى رجال و الهم الذي يضحك و يبكي في ان واحد انه في بداية مقاله كتب عن الكوارث والمصائب في الشعوب وقتها و كيف أن هناك امم تنهار و اسر تشرد و اذا نظرنا حولنا سنجد ما كتب عنه بالضبط يدور من حولنا بل امام اعيننا ، وقد اورد في مقاله قصة عن صوفيين يكتبوا على قبورهم عمرهم بعدد الايام السعيدة التي عاشوها فمنهم من عاش يومين او يوم واحد فقط.❞ حتى كان من غريب أمر الإنسان أنه لا يدرك اللذة إلا بالألم، ❝
و هكذا تدور بنا الايام وتحمل إلينا تارة مسرات و تارة مصائب و كليهما خير حتى وان كنا نجهل هذا.
كما كتب عن غار حراء وميل سيدنا محمد عليه افضل الصلاة والسلام الى العزلة فيه كل شهر فدارت في افكاري كلماته عن الميل إلى العزلة وسط الطبيعة في دير سان كاترين في مقال اخر و احاول ان ابحث عن التشابه بينهما و لكن بعدها قرأت عن حيرته من وجهة نظر المؤلف بعد ان رأى ما يعبد قومه ولم يعجبه ، أليس مثله كمثل حيرة سيدنا ابراهيم عليه السلام حينما كان يتساءل عن افول الشمس والقمر.
و باسلوب بسيط و سلس للغاية حاول وصف شعور الحيرة الذي تملك الرسول و رفض الضلال و الرغبة في الوصول إلى الحق فأجابه الحق سبحانه وتعالى.
❞ لقد صعد إليه إنسانًا حائرًا، وهبط منه إنسانًا نبيًّا، مهتديًا مطمئنًّا. صعد شاكًّا وهبط مؤمنًا. لمع في قلبه النور الإلهي فإذا كل شيء حوله شفاف يراه بقلبه ويكشفه بنوره. ❝
وقد تضمن هذا الكتاب من بين ما تضمن عدة مقالات دينية و روحانية تتشابه و كأنها حلقات متتابعة و ربما لدى المؤلف حكمة في طرح هذه المقالات دون تتابع كي يترك للقارئ ترتيبهم زمنيا حسب فهمه و استيعابه فهنا الهجرة التي يمر عليها سريعا منذ اجتماع كبار القبائل في دار الندوة و حتى هجرة النبي إلى المدينة و مؤاخاة الأنصار و المهاجرين وفتح مكة.
لكن بالتاكيد هناك ما تم اضافته اليك كقارئ ففي خلافة عمر اقترح علي ان اولى حدث يستحق البداية من عنده هو عام الهجرة و بالرغم ان وقتها كان حوالي العام ال 17 من الهجرة الا انه منذ هذه اللحظة اصبح هناك ما يسمى بالتقويم الهجري.
وفي مقال آخر يطرب اذاننا بسيرة سلمان الفارسي الذي نعرف عنه جميعا انه صاحب اقتراح صنع الخندق في غزوة الخندق ولكني لم أكن أعلم انه مر بعبادة الاوثان و النصرانية واليهودية حتى وصل أخيرا الى الاسلام الحق وهو يبلغ من العمر خمسون عاما.
فكل ما اراده هو ان يصل الى سيدنا محمد فتحقق له ما اراد بمشيئة الله و التقاه في المدينة المنورة وقد استمر تأثيره حتى خرج اميرا على جيش المسلمين لغزو فارس في عهد عمر وتوفي في اواخر عهد عثمان.
وكما ضمن في بقية مجلداته سيرة العديد من المصلحين فلم يغفل ايضا هذا الموضوع في مجلده الثاني و لكنه كتب عن افضل مصلح في الحياة ككل وهو سيدنا محمد و ذكر ان المصلح ليس من يضع الخطط فحسب ولا من حاول تنفيذها فحسب و لكنه من نجح و برع في تنفيذ خططه بافضل وسيلة.
و صراحة لا اجد أفضل من هذا الموضوع ان اختم به مراجعتي المتواضعة لهذا الكتاب خاصة و قد كتبه المؤلف باكثر من راي و اكثر من صوت فابدع بحق.