صدق من قال أن الكلمة لا تموت ! يموتُ صاحبها وتبقى هي ، فقد صدرت هذه السلسلة في عام ١٩٣٨ أي منذ حوالي ثمانين عاماً ورغم هذا لازالت تقرأها الأعين بل وتنتفع بها العقول ، وللمرة الثانية بالنسبة إليّ بغض النظر عن إختلاف ترتيب الأجزاء يثبت "أحمد أمين" أن خاطره حين فاض لم يحدث أن أخرج إلينا كلاماً مرسلاً .
ومن العجيب في الأمر إنه وجد ما يكتب عنه في كل مجلد من العشر مجلدات ، بل واستفاض في كتابته عنه كالحياة الروحية التي بدأ الحديث عنها في المجلد السابق وأتبعه هاهنا ، وأذكر من كتابته عنه حين كتب عن سعة النفس و إمكانية العثور عليها من خلال ممارسة أعمالنا و التي تتضح جلية حين تتلاقى نفسين و يقتربا فتتوالد السعادة.
لم أتبع هذه المرة في قراءتي للكتاب نفس ترتيب المقالات فدائماً ما تأسرني الكتابة عن اللغة العربية والأدب أينما كان لذا فبعد أن تذوقتُ الشعر الذي كتبه "عروة بن الورد العبسي" و تمجيد كبار القوم له برغم فقره حيث كانت النظرة للبشر في هذه العصور تختلف عما نحن الآن إلا أن "معاوية" تمنى مصاهرته و قيل على لسان عبد الملك بن مروان "من زعم أن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد" ، وجدتُ أن لزاماً عليّ أن استمر في ذات الطريق فسبحتُ في أعماق اللغة وخطراتها التي تختلف مصطلحاتها و مفاهيمها من جيلٍ لآخر و بلد وأخرى وحتى أحداثاً رحلت بمصطلحات خاصة بها وأخرى ، ولم يغفل الحديث عن الإجتهاد في اللغة العربية ولمن الحق في هذا الاجتهاد حتى يتم ضبط اللغة كما هو مفترض.
❞ فدنيا الأطفال التي تعين على شرح الألفاظ غير دنيا الرجال، ودنيا الفلاح غير دنيا المتمدن، ودنيا الجاهل غير دنيا العالم، وكل يفسر الألفاظ حسب دنياه. ❝
كان يأمل "أحمد أمين" في كتابه أن يحدث تعاون بين الدول العربية لحل المشاكل الثقافية التي تواجه الأمة العربية بأكملها في خلق مزيج من تراثها القديم و مدنيتها المعاصرة ، ولكنه للأسف توفي قبل الكثير من الأحداث الذي كان بالتأكيد سيموت كمداً إن رآها رأي العين.
وقيل قديماً "كل يغني على ليلاه" ولازلنا نستشهد بهذه الجملة في كثير من المواقف و لكنه كتب عن اختلاف الآراء فيما بيننا فلكل منا منظاره الخاص الذي يوضح جزء معين حسب شخصية أو مزاج كل فرد ولا أقصد هاهنا بالمزاج حالته المزاجية التي تختلف من وقت إلى آخر ، بل أظنه يقصد الطباع التي تغلب على تصرفات فرد عن آخر في ذات الموقف.
وقد تفاجئت أن في الإهتمام الشديد بالأسرة أنانية حين تكون رعايتهم من أجل النفس اولاً حين قرأتُ عن اختلاف الآراء بين عجوزين عن مفهومي الأنانية والإيثار فيُلقي كلا منهما بدلوه و يظلُ القارئ يروح و يجئ بتفكيره مع كليهما.
تميز هذا المجلد بتنوع الأشخاص الذي كتب عنهم كما تتنوع مقالاته في كل مجلد فسرد في أكثر من مقال سيرة "رفاعة الطهطاوي" الذي يعد واحداً من أهم قادة النهضة العلمية في عهد محمد علي ، والذي بدأ سفره كإمام للبعثة و لكن تأثيره امتد حتى عاد من فرنسا بعد خمس سنوات محملاً بمسئولية كبيرة لنقل كل فنون العلم التي تلقاها هناك سواء ما اقتنصها هو مما رآه حوله أو ما تم تلقينه إياها.
أُعجبت كثيراً بأسلوب تفكير محمد علي في هذه الآونة حين وضع أمامه جميع الإختيارات للنهوض بالأمة ثم لجأ إلى أسرعها فاستحق عن جدارة لقب المأمون الثاني.
❞ إننا بالبعثة ننقل المصريين إلى أوروبا، وبهذه المدرسة ننقل علم أوروبا إلى مصر. ❝
وبالعودة إلى رفاعة الطهطاوي فبعد عودته من فرنسا بفترة قليلة اقترح على محمد علي انشاء مدرسة الألسن و أصبح ناظرها و سافر للأقاليم لجمع طلابها في زمن كان الإقبال على التعليم نادر أصلاً ، فكان يتخرج الطالب من هذه المدرسة وهو مُلم بشتى العلوم كاللغات و الجغرافيا والتاريخ والأدب وشغل منهم مناصب عامة.
ولكن دوام الحال من المحال فبعد أن وصل إلى ذروة نجاحه في عهد محمد علي اختلف الأمر في عهد عباس ، بل وتم نفيه ثم عاد الحال أفضل في عهد اسماعيل و دافع عن تعليم البنات حتى وافته المنية.
لم يمر الكتاب أيضاً دون أن يتضمن بعض الحديث بين الأصدقاء عن علم النفس وتحليل شخصية البعض منهم دون البعض لرؤيته أن بعضهم ماهو إلا صورة مصغرة و لكن الأساس واحد في الجميع ، وكانت مقالة اخرى تحمل في طياتها كما ذكرتُ قبلاً في مراجعة سابقة دعوة للتفكير و التأمل فطوال قراءتي للمقالة الخاصة بالإنسان الكامل وأنا أصدق على حديثه الذي يشير إلى أن كل فريق يرسم و يتوهم ويتخيل ويضيف صفاتاً خيالية إلى البشر مثلهم لتصويرهم في صورة أبطال .
فقرأتُ عن رأي نيتشه والصوفية كل من وجهة نظره المادية و الروحانية و عن صفات السوبرمان بوجه عام وتوقفتُ عند لفظ "ملهم" التي أكد على ضرورة وجودها فيه فلا يمكن أن نصبغ عليه صفات جسدية أو عقلية أو روحانية فحسب بل هو مزيج من كل هذه الصفات.
واختتم احمد امين كتابه برحلة خاضها بين أناسٍ بدوا كاملين في عصورهم بالنسبة للآخرين فمن محمد بن عبد الوهاب زعيم فرقة الوهابية الذي سعى للعودة إلى الإسلام الأول والبعد عن أى مظاهر الشرك إلى مدحت باشا الذي نادى بالرجوع إلى المدنية و هناك جمال الدين الأفغاني الذي ربط الدين و السياسة سوياً بعد إصلاح العقول اللازمة لصنع هذا الربط و أخيراً أحمد خان الذي تشابه في أفكاره مع محمد عبده تلميذ الأفغاني .
وإلى هنا انتهت رحلتي الثانية مع خواطر/مقالات أحمد أمين التي حملت في جعبتها الكثير من المفاجآت و الأفكار التي لم تمت كصاحبها بل خلدتها الكلمات.