كنت أجلس وحدي، أحاول إيجاد فكرة لروايتي المفترض أن أشتغل عليها خلال الورشة، في الواقع الأفكار كثيرة، لكن لم أجد الروح، والرغبة، والحاجة الداخلية الماسّة لأن أكتب رواية كما توقع الجميع مني ذلك، كنت أريد فقط أن أجلس طوال الوقت أحدق في السقوف والجدران، أتأمل النقوش والأفق والشمس وغروبها وبهاء القمر في الليل والسحب الصغيرة البيضاء البضّة التي تبدو كسرير قطنيّ دافئ، أتخيل كثيرًا أني أنام عليها وأشعر بالحنان والأمان والراحة، كنت متعبة من كلّ شيء، أريد فقط أن أستريح، وأتشبث بحلم الكتابة كملهاة أتلهى بها حين يباغتني أحدهم في حالات شرودي الدائم، فأقول إني أفكر في الكتابة، وفي الواقع كنت لا أفكر في شيء. لكن لن يتقبلك العالم إن قلت له إنك تفضل أن تقضي وقتك جالسًا محدقًا في الأفق دون أن تفكر في شيء، لذلك اخترعت قصة الكتابة، ومن يومها وأنا أعاني لأثبت صحة ادعائي،
المؤلفون > مريم الساعدي > اقتباسات مريم الساعدي
اقتباسات مريم الساعدي
اقتباسات ومقتطفات من مؤلفات مريم الساعدي .استمتع بقراءتها أو أضف اقتباساتك المفضّلة.
اقتباسات
-
مشاركة من إبراهيم عادل ، من كتاب
مملكة النحل في رأسي
-
كان يأتي قبلها، وأحيانًا هي تأتِي قبله، تجده جالسًا في ركن قصيّ، يشرب قهوته، ما إن يراها مقبلة نحوه حتى ينهض بتثاقل مصطنع، وهو يبتسم، وما إن تلمحه حتى تبتسم، ابتسامتها كانت تضيء المطعم، كنا نشعر بذلك نحن السعاة، ننتظر لقاءهما الأسبوعي، أحيانًا يلتقيان أكثر من مرة في الأسبوع، في كل مرة نفرح لرؤيتهما، يشير أحدنا إلى الآخر: «ها قد أتى» ونعلم أنها آتية بعده، فننتظرها كما ينتظرها، ننتظر ابتسامتها لرؤيته، وابتسامته لرؤيتها، ونتجادل فيما بيننا: أي الابتسامتين أجمل؟ رأينا أزواجًا كثيرين، عشّاقًا في مراحل المحبة الأولى، لكن لم نرَ مثلهما، عرفنا منهما أن السّعادة تعني الحبّ، والحبّ لا يجب أن يكون إلا سعادة. يكون جالسًا وحده بكل همومه، تبدو همومه واضحة على ملامحه، يشاكسنا قليلاً وهو يطلب القهوة ومنفضة السجائر، لكن ما إن يراها مقبلة حتى تنقشع غمامة الهمّ عن وجهه، نحرص على التقاط تلك اللحظة، يصير وجهه سماءً صافية، ويضيء وجهها كشمس، ونقول بيننا: «يا الله.. كم نحتاج جميعًا للحبّ».
لو كنا نحمل في أيدينا أطباقًا نتحجج بأيّ شيء لنقف ونلمح مشهد لقائهما، وإشراقة وجهه قبل أن ننطلق لتلبية طلبات الزبائن الآخرين، الزبائن الآخرون نراهم كل يوم، لا شيء فيهم مختلف، منهمكون في الأكل والشرب والكلام، هم أناس قدماء على الحياة؛ كمن انتهى من دهشة اكتشاف مشاعر جديدة، عاشقانا كانا مختلفين، كفردين هبطا للتوّ من الفضاء، وصارت الأرض لهما اكتشافًا مدهشًا.
تُقبل نحوه بخفّة، يمدّ لها يده، فتصافحه، ويعانقها، لحظة العناق كانت سبقًا لمن يشهدها، من يشهد المشهد يحسّ بذراعيها تلتفّان حوله أيضًا، يشعر بأنفاسها تستريح على أنفاسه، يشعر بدفء حضنها، كانت تحتضنه كأنها تحتضن الأرض ومن عليها. «هذه البنت عاشقة حتى النهاية» كنا نقول لبعضنا، ونحن نبتسم بفرح ومحبة، وندرك أن الحبّ مفرح حتى لمن يتفرج عن بُعد.
كنا نحبهما، كانا لطيفين جدًّا، هو كان دومًا طيبًا ومتواضعًا وظريفًا وكريمًا في البقشيش، يشاكسنا ويلقي نكات مفاجئة نظنها جدية حتى ندرك من ضحكة فتاته أنه فقط يمزح، هي كانت تضحك من قلبها كثيرًا، حضورها تجسيد لمعنى الشخص السعيد. حين نقدم لها الشاي أو القهوة ترفع عينيها، وتقول للنادل وهي تنظر إلى عينيه: «شكرًا لك يا عزيزي» تقولها بحميمية لا نحسّها في الآخرين، الزبائن الآخرون غالبًا لا يرفعون رؤوسهم، إن قالوا: «شكرًا» فبخفوت ولا اهتمام، أو فقط هزّوا رؤوسهم، وكثيرون كانوا لا يعيروننا اهتمامًا، هي كانت تحرص في كلّ مرة أن ترفع عينيها، لتلتقي بعيني النادل منا، وتقول له بابتسامة دافئة تذيب جليد الأقطاب المتجمدة: «شكراً لك يا عزيزي»، بريق عينيها ساحر، كنا جميعًا نحبها، نحبّ إحساسها بنا، انتباهها لنا، وحرصها على قول كلمة «عزيزي» بعد كلّ «شكرًا لك» كان هذا أكثر شيء إنسانية يحدث لنا؛ نحن الندل البؤساء.
كانت جلستهما حيوية باعثة للمرح، يتحدثان كثيرًا، ويضحكان في انسجام نادر ما إن يطمئنا لمجلسهما في الركن المنزوي الهادئ، تتحرك شجيرة صغيرة بجانبهما مع النسائم، فيصبحان جزيرة وحدهما، يختفي العالم من حولهما، عيونهما تحيطهما بسياج عن عيون الآخرين، ولم يكونا يأبهان لأحد
كنا نختلس النظر لمحياها من وقت لآخر، تظل مبتسمة، أو منصتة بجدية صنم لما يقوله، كانت تبدو حريصة جدًّا ألا تفقد كلمة مما يقول، تكون في منتهى التركيز وهو يتحدث، وكان يتحدث كثيرًا؛ ويحكي لها، كان يحكي لها كثيرًا، أشياء كثيرة كما يبدو، وكما يبدو كانت هي البحر الذي يصفّي أمامه روحه كلّ أسبوع، كان مجهدًا جدًّا ومحتاجًا لشاطئها، وكانت هناك له، تنبسط له مثل شاطئ شاسع، تلك البنت كانت تحبه، وكان هو محتاجًا لهذا الحبّ.
مرت أسابيع طويلة لم يظهرا، حتى جاءت مرة وحدها، ابتهجنا لمرآها، رحبنا بها، لكن كانت ترد باقتضاب، سارت محنية الرأس لأول طاولة خالية صادفتها، لم تخلع نظارتها السوداء، انتظرنا أن يأتي خلفها بعد قليل كي تبتهج وتضيء ابتسامتها المكان وقلوبنا، لكنها ظلّت هناك تجلس طويلاً وحدها، تطلب القهوة، فنجانًا تلو آخر، وفي كل مرة لم تكن ترفع رأسها لتقول شكرًا، كانت تتمتم فقط، أو تهز رأسها كأي زبون قديم هبط على الأرض منذ دهور، ويحيا فقط انتظارًا للحظة رحيله. تجرأ أحدنا وسألها عنه، رفعت رأسها وقالت بابتسامة باهتة: «لا أعرف».
رأيناه في مرات لاحقة، لكن بصحبة أشخاص آخرين، يجلسون حول طاولة كبيرة، يتحدثون بصخب في أمور عملية، ومشاريع يزمعون القيام بها، كما كنا نلتقط من أحاديثهم الطويلة؛ زملاء عمل ربما، بدا معهم رجلاً عاديًّا جدًّا، ولم نعد نميزه بين الأشخاص الجالسين حوله، ولم نعد ننتبه حين يدخل المطعم، ويخرج منه.
مشاركة من إبراهيم عادل ، من كتابمملكة النحل في رأسي
-
أفكر ماذا لو خُلقت قبل اختراع التلفزيون؟ لربما كنت ملأت وقتي بقراءة الكتب التي تتراكم في مكتبتي دون أن أفتح حتى الغطاء البلاستيكي على أغلفتها. أحب الكتب، هي حبوب اكتئابـي، كان الانتهاء من قراءة رواية كفيلاً بإخراجي من دنيا البلادة لدنيا الحياة بكل قوة ووضوح رؤية وتوازن نفسيّ وسعادة، لكن هذا كان أيام الطفولة والصبا والشباب الأول، حين لم يكن لدي الكثير من الكتب، هل تقتل الكثرة الرغبة؟ كنت أحلم بمكتبة كبيرة، كنت أشتهي رائحة الكتب، كلما دخلت لمكان فيه مكتبة كنت أبكي من شدّة الإحساس بجمال الحياة، لكن لم يكن لديّ في البيت مكتبة، لا أحد يهتمّ بالكتب غيري، الآن أصبحتُ مستقلة، أشتري ما أشاء من الكتب، ولديّ الوقت، لكن ليست لديّ الروح. أين تذهب أرواحنا الأولى حين نكبر؟ من يسرقها منا؟ الزمن؟ الناس؟
مشاركة من إبراهيم عادل ، من كتابمملكة النحل في رأسي
-
أحتاج أن أخرج من هكذا عالم قميء. أُشغّل أسطوانة موسيقى، أضع سماعات الأذن، أصمّ أذني عن كلّ صوت ما عدا الموسيقى، أُلغي كل التطبيقات الهاتفية التي من شأنها نقل الأخبار العاجلة، أغلق الهاتف، أمتنع عن قراءة الجرائد، أغلق جهاز التلفزيون، أجلس تحت ظلّ شجرة، أستند إلى جذعها المتين، أشم رائحة العشب المقصوص المحيط في المكان، في السماء غيمات صغيرة داكنة قد تسقط مطرًا وشيكًا، في أذني صوت موسيقى، حولي نملات صغيرة كثيرة، أتحاور مع النمل، لطالما كان النمل صديقي، أخبر النمل أن في الموسيقى حياة، وأن الحياة جميلة، وأن في الحياة الجميلة الكثير من البشر الطيبين، والنمل يجري هنا وهناك، يجري كمن أصابته مصيبة، ولا يصدقني، حتى النمل يعرف أن الانسان لم يعد مصدرًا للثقة، وإن تحدث عن الحياة والموسيقى؛ إذ يمكن في لحظة أن يجلس على مملكته، ويسحقها بثقل وجوده، وإن على غفلة.
أبحث عن النجاة، كيف ينجو فرد وحيد ضعيف توّاق للجمال في خضمّ البشاعة والغدر والخيانات والخراب والدمار الهائل؟ أرفع بصري إلى السماء، وأنساه هناك، ففي الأرض لم يبقَ شيء نستمدّ منه الأمل؛ مات الإنسان، ويبقى الله في عُلاه.
مشاركة من إبراهيم عادل ، من كتابمملكة النحل في رأسي
-
كلّ ما ننام ونستيقظ عليه هذه الأيام أخبار قتل وتفجير وحروب وإرهاب وذبح وخطف، لذلك صرت أنام كثيرًا؛ من يريد أن يستيقظ لهكذا عالم؟ تواجدت الجريمة على مدى التاريخ الإنساني، ولكن ليس بهذا الشكل المنظم المكثف المستمر على مدار الساعة، وكأنها العمل الرسمي والهواية العادية للبشر، وكأن فتيلة الإحساس تلك التي كانت تجعل الجاني يتردد قليلاً قبل الإقدام على ذبح طفل، قبل أن يضغط على زرّ قنبلة تحرق المدن العامرة والقلوب النابضة والمشهد الحيّ للأيام، تلك الفتيلة التي تجعل العين ترمش واليد ترتجف ولو للحظات في إشارة إلى عذاب الضمير وصراع الندم الإنساني، قد انتُزعت في الإصدار الجديد للإنسان الحديث، أو ربما فقط لم يكن كلّ البشر يعلمون بما يجري في كل بقاع العالم للتوّ واللحظة، ويعيشون الحدث بتفاصيله كما تروج وسائل الإعلام بفخر لمتابعيها الذين اقتحمت خصوصية حياتهم، وأخذتهم معها في جولة مأساوية إلى قلب الحدث الدامي الدائم.
مشاركة من إبراهيم عادل ، من كتابمملكة النحل في رأسي
-
في آخر الصالة توجد شرفة واسعة، تطلّ على برجين وقطعة من البحر وبعض قوارب، في الشقة المقابلة التي دخلتها قبل هذه كان المنظر من الشرفة أجمل، يطلّ على البحر وكفى، ولا شيء أمامك. قال مندوب شركة العقارات: «هذه جيدة، تستطيعين الخروج إلى الشرفة والاستمتاع بالمنظر دون أن يراك أحد» كنت قد بدأت أميل لها، حتى قال هذه العبارة. لماذا أريد ألا يراني أحد؟! أنا أتخطى الثلاثين بعتبات كثيرة، ولم يرني أحد، لم نسمع بابن الجيران، وقصص الحبّ من الشرفات إلا في الأفلام، ومضت حياتنا دون أن يرانا أحد، ودون أن نرى أحدًا، وحين نريد أن نستقلّ بحياة وفق هوانا، نبحث عن شرفة لا تطلّ على أحد!
«لا أريدها، لنَرَ الأخرى»، أجبته بحدّة وأنا أخرج.
مشاركة من إبراهيم عادل ، من كتابمملكة النحل في رأسي
-
عندما استيقظتُ هذا الصباح كنت أشعر بأني امتلأت أكثر مما ينبغي بك، بكم أفتقدك، وقلت لنفسي في مرآة المصعد وأنا أهبط من شقتي في الدور التاسع إلى الدور الأرضي إنني في غمرة افتقادي لك افتقدت افتقاد نفسي، أنت لاحظت في صوتي ذلك، وظللت تسألني ما بـي. أنت تشعر حين تتملكني مشاعر مختلفة بشأننا، لكنك لا تعرف تحديدها، أنا أيضًا أحيانًا لا أعرف تحديدها، أو لا أريد أن أتكلم بشأنها، لأني أعرف كم أنت دقيق، تهمّك الدقة، ويهمّك أن تفهم كلّ كلمة، وماذا أقصد بها بالضبط، وأخشى أني في غمرة محاولاتي التوضيح أقول أشياء لا أقصدها حقًّا، لذلك أفضل التزام الصمت أحيانًا، وعدم الإجابة على سؤالك بغير «لا شيء، أنا بخير» لأن المعنى الوحيد والأهمّ هو أني أحبك، لا شيء بعد ذلك يهمّ حقًّا.
مشاركة من إبراهيم عادل ، من كتابمملكة النحل في رأسي
السابق | 1 | التالي |