"إن الأدب الذي يبقى هو الأدب الذي يتحدث عما يبقى من قيم الإنسان، ويعبر عن أفكاره التي تتجاذبه في معترك الحياة التي تطحنه كل يوم" هكذا عرف الروائي الأردني أيمن العتوم الأدب، وبهذا المعنى فإن هذه الرواية جديرة بأن تتبوأ مركزاً متقدماً في قائمة روايات الأدب التارقي.
عندما يقع ناظري على رقم 1973، فإن ما يخطر ببالي على الفور حرب تشرين (رمضان) ضد الكيان الصهيوني، إلا أنك ومع انتهاء هذا النص الأدبي التوثيقي ستضيف دلالة جديدة لهذا العام ، إذ أنك فجأة ومن غير سابق إنذار ستجد نفسك وسط جفاف عام 1973 الذي ضرب شمال مالي منتجاً هجرات جماعية غيرت ديموغرافية الجزء الشمالي من القارة السمراء حتى وقتنا الحالي.
"كل القرائن المدبوغة بمخيلة إنسان الصحراء، باتت تشي بمجيء عام (يا لطيف)!! الأمطار احتشمت على غير العادة، المراعي قحطت، المواشي ضاعت، وتاه الإنسان!" بهذه الكلمات وصف الصديق حاج أحمد مَنّا وهو الجفاف الذي راح ضحيته آلاف الأزواد، ولمن لا يعرف الأزواد فهم سكان شمال مالي قرب الحدود الجزائرية.
سنتتبع على مدار 341 صفحة رحلة طوارق مالي هروباً من شبح الموت جوعاً إلى الجزائر وليبيا، بأسلوب يؤنسن الحادثة ويجعلها قريبة منك، يوماً تلو الآخر ستعاند مع الفارين لتنجو، ستبكي الجدة وكأنها جدتك، سترثي الجمال والماعز وكأن من فقدها هو أنت.
يكتب الزيواني قصة الحلم بإقامة وطن أزوادي بنفس استقصائي، يجمع بين الصحفي والسيري، المؤرخ والأديب، في سياق ملاحقته لقصة بادي وهو كما يصف نفسه صحراوي تيلمساوي، الرجل الذي بينما يطارد شبح الوطن الحلم يجد نفسه في معسكر اعتقال أنصار على الأراضي اللبنانية المحتلة في منطق عبثي إلا أنه مع الأسف حقيقي واقعي، سيقص عليك كيف لعب القذافي على أحلامهم لتحقيق مآربه، وورطهم في حروبه الخاصة في لبنان ومن ثم التشاد كمرتزقة.
رواية رائعة لكنها مؤلمة، يمكن اعتبارها تأريخاً لثقافة شعب منسيّ، لم يأخذ حظه في إيصال صوته إلى العالم.
قرأت مرة أن "الصحراء تعاش ولا تروى"، هذه الرائعة يمكن تقديمها كدليل على خطأ العبارة، إذ أنها تشاركك معاناة الأفراد الذي يناضلون بكل ما أوتوا من قوة وكأنك ذقت معهم لهيب الصحراء وقلة الطعام.
تميز الكاتب بوصفه الدقيق، وهو ما أعطى الرواية قيمة مضافة برأيي، إذ إنني على الرغم من مخيلتي الضعيفة إلا أنه لم يسعني إلا أن أرسم في ذهني صورة انطلاقاً من وصفه البديع "وجهها بيضاوي، عيناها مرمشة، لم تعد شفتاها تتحكم في غلق باب فمها، خراب أسنان فكها العلوي الأيمن وما يقابله من السفلي، أحدث انجرافاً بيّناً، أمام نظيره الأيسر الذي لا يزال يحتفظ بثلاث أسنان مهلهلة، يعبث بها اللسان كما يشاء، فتوقع تلك المسكينة أصواتاً غير التي تطلب."
اعتراضي الوحيد على الرواية استخدامها بكثرة لمفردات وتراكيب من اللسان التارقي والتي على الرغم من دورها في إضفاء جو واقعي وفريد، إلا أنها جعلت لغة الرواية صعبة بعض الشيء ما يحد من وصولها إلى القارئ العربي خارج جغرافية الأحداث، على أمل استخدام هوامش سفلية في الطبعات القادمة لتجاوز هذه المشكلة برأيي.
هذه الرواية ستعلق بالأذهان، وستضيف إلى معارفك الكثير، ستتحمس لحلم وطن لن تكون يوماً من ساكنيه، وسيبقى قيد التخيل إلى الأبد على ما يبدو.