هذه واحدة من الروايات التي لا يُمكنني أن أنساها مهما حييت، ليس فقط لأنها ترتبط معي بعوامل مُشتركة شديدة الخصوصية مثل: أن تعيش في منطقة شعبية، أو أن تتغرب من أجل العمل أو الدراسة.. لكن لأنها نقلت ذلك العالم -الذي كُنت أعرف أنه موجود ولكن الآخرين يتظاهروا بعدم وجوده- بحذافيره، بموضوعية شديدة، وأمانة، وجرأة. وكُل تلك العوامل ساعدت في أن تدخل جو الرواية العام، حتى الغريبين على هذا العالم.. بمُجرد أن تطأ أعينهم صفحات الرواية.. سيفهموا، أو على الأقل سيقنعوا أنفسهم أنها حكاية فانتازية أو ديستوبيا في حالتنا هُنا. ولكني دعني أؤكد لك أن هذا العالم موجود بحذافيره، بكل تلك القواعد المطاطة والأخلاقيات الآستك، بكل تلك الشتائم والضرب ولامنطقية الأحداث كـ"ميمي" مثلاً في الجنازة!
ذلك العالم موجود، وصدق أو لا تُصدق وبكثرة.. هؤلاء البشر نحن لسنا أفضل منهم في شيء -لا سمح الله- ولكن الظروف المُختلفة كانت قد تؤدي بي أو بك إلى أن نكون من تلك الطبقة وصدقني لا عُنصرية في كلامي.. فما هم فيه ليس بذنبهم.. ولكنها التراكمات.. تراكمات الفساد التي أزكمت أنوفنا، وتغاضى عنها الكثيرين من أصحاب السُلطة والنفوذ طالما أن مصلحتهم جارية ولا تُمس.. تراكمات جعلت من بعض البشر أشباه، تفكيرهم مشوه، ولا أخلاقيات لديهم تُذكر، وتعرفيهم للحياة هي بأن يعيشوا اليوم بيومه، حتى لو من أجل ذلك، باعوا عرضهم أو عرض بناتهم، حتى لو عملوا بالدعارة المُقننة وغيرها، حتى لو سرقوا.. وكُل ذلك سيستطيعون أن يُبرروه بمنطق قد يضرب منطقك بأقدم جزمة رأيتها في حياتك.
مع عودتي لقلم "بلال فضل" الذي كُنت إنشغلت عنه لفترة سنتين وهو واحد من الكُتاب الذين جعلوني شغوفاً بالقراءة، وهذا تاسع كتاب أقرأه لبلال وهو رقم أحسبه كبير، ولكن هذه أول رواية لـ"بلال" وهي قد تكون سيرة ذاتية بشكلاً ما، رُبما مُضاف عليها صبغة درامية ولكن ليست بالشيء الكثير والغزير.. وسرد "بلال فضل" السلس الرشيق، وحتى اختيار الألفاظ -الذي وبكل تأكيد سيعترض عليه الكثيرين ولكنه كان أمين- الصريحة والواضحة المُباشرة، بدون تذويق أو خوف على الذوق العام المُنحدر في الأساس!
ولا تشعر من كلامي أن الرواية سودواية قاتمة ككلماتي، صدقني هذه واحدة من الروايات التي ضحكت فيها حتى البُكاء.. لا أستطيع أن أتذكر آخر مرة قادتني رواية إلى هذا الكم من الضحكات التي تصدر من القلب أولاً.
ويُحسب لبلال أنه أيضاً حول كُل تلك الأحداث العابثة المجنونة الهزلية داخل قالب درامي مُقنع ومتين بتحولاته وصعوده وهبوطه.. حتى الإلتواءة التي بقرب النهاية.. جعلني أتأثر بالأحداث وأفكر في حلاً لكُل عقدة يواجهها ذلك الطالب الغلبان الذي يُريد أن يُكافح وينجح بنسبة عالية ليحصل على المنحة، ومشاهدة بعض الأجزاء البولندية المُعينة.
عندما وصلت لآخر أحداث الرواية، شعرت بالقلق والتوتر أن الرواية ستنتهي، وأنا ما زلت لم أرتوي بعد من حكايات بلال الشعبية، التي أعرفها ولا تزال تُفاجئني.. ولا يزال سرد "بلال" يُمتعني.. لأجد أن الحكايات لم تنتهي بعد، وأن بلال قادم برواية أخرى من نفس العالم، اسمها "نحو حارة سمكة" وأظن أني سأنتظر هذه الحكاية على أحر من الجمر.