ثمة أماكن، وحكايات غير قابلة للنسيان، خُلقت كي تبقى في الذاكرة، كبقعة ضوء صارخة، وماعداها عتمة،
فقد تكون ذُقْت الكثير من المرارات، ولكنك لن تنسى طعم تلك التي أغمضت عينيك حينما تذوقتها قهرًا
وربما صفعت صغيرًا، على وجهك ومؤخرتك عندما أخطأت قصدًا، أو بدافع طفولي ساذج، لكنك ابدا لن تنسى، ولن تشفى من صفعة أحدهم الذي كان بمثابة وطن
وربما جالست الكثير من البشر، واحتسيت أصواتهم، ولكن يظل القلب في جوع للحديث مع أحدهم .
وربما صادفت الكثير في الطرقات وابتسمت للكثير، ولكن يبقى القلب في حالة بحث دائم، يقلّب الوجوه بحثا عن وجه ذلك الغائب
ذلك الذي كان وطنًا
وربما تعرضت للخيانة من أشخاص لا عد لهم، ولكنك لن تنسى خيانة من كان للقلب حبيبًا، الذي فض بكارة القلب، وأشرق الوجود معه وبه
فحتمًا لن تنسى خيانته
محال أن تنسى، ومحال ألا تنتقم إذا ما اتيحت إليك الفرصة، على الرغم من أن الإنتقام حماقة، ولا بد أنك الخاسر.
هكذا كتبت «بثينة العيسى»في روايتها
"السندباد الأعمى" عن كل هذه المشاعر التي ربما مررنا بأحدها ، أو معظمها
وقد تحدثت عن اختيار اسم الرواية والذي كان بعيدًا عن المضمون، أو خارج جسد النص، وان كان يحمل اسم السندباد رمز، ومعنى الترحال، وكثرة المغامرات الأسطورية، والتي أضافت له (العمى) كحالة من التيه والتخبط، ليظل السندباد في الرواية حاضرًا برمزيته هو والبحر، الذي كان مسرحًا للأحداث، وقالت:
استلهمت الفكرة من "إمبرتو"في روايته اسم «اسم الوردة»والتي لم تتضمن أحداثها أي ورود، فأردت اتباع الطريقة نفسها وألا يتضح للقارئ توجيه
.
تحدثت أيضًا عن الغزو العراقي للكويت، والذي كان وجهًا اخر للخيانة، خيانة الوطن من وطن شقيق، وكيف كشف الغزو عن هشاشة المجتمع الذكوري، وأظهر عيوبه التي تغض الطرف والعين على كل جرائم الرجال، ويحاسب النساء عليها ذاتها، بكل قسوة، وبلا رحمة
تحدثت العيسي عن «التابوهات»التي يخشى المجتمع العربي التطرق إليها (الدين..الجنس..السياسة..التعصب الطائفي)
ولكن هل وفقت الكاتبة في تشريح تلك القضية؟
أرى من وجهة نظري أنها اغرقت الرواية في الرمزية، فأصابتها بالترهل والتشويش، لا انكر أن (الرمزية) تفتح باب التأويل والخيال على مصرعيه، لكن الإفراط في الرمزية لا يخدم العمل، بل على العكس.
الشخصيات النسائية في الرواية احتلت الصدارة فكانت «مناير»الإبنة بطل العمل ومحوره والتي كانت ترى نفسها طيلة الوقت شفافة، وغير مرئية للجميع، فتقول في جملة عبقرية في الرواية:
(أن الطفل يصبح لامرئيًا حين يكف والديه عن النظر إليه).
فكانت «مناير» هي «نادية» الأم، وهي الهريرة العمياء، وهي كل فتاة لايراها الجميع إلا من منظور أحمق، وضيق
اصابت بثينة في توظيف شخصية الجدة المستبدة، التي تبصق كل احقادهاوما توارثته من عفن التفكير، وهشاشة الدين في وجه حفيدتها التي لا ذنب لها في أي شيء، فحملتها وزر، لم يكن وزرها
كان من الممكن أن تنهي الكاتبة الرواية دون التطرق لموضوع آخر وهو (الجائحة)الذي أفردت له فصل كامل، كحدث زمني بعد مرور ثلاثون عامًا على الغزو، فكان دخيل على العمل، وان كان من وجهة نظرها بينه وبين الأحداث ترابط.
استخدمت الكاتبة اللهجة العامية الكويتية في الحوارات، فكانت من عيوب الرواية من وجهة نظري، فالروايات تكتب للجميع وليس لمجتمع بعينه، فكان من الممكن استخدام اللغة العربية الفصحى، أو على الأقل التقليل من استخدام الكلمات الغير مفهومة، لغير أصحاب البلد
«السندباد الأعمى»
رواية تستحق القراءة على الرغم من بعض عيوبها التي ذكرتها، فسوف نكتشف في النهاية أن كلنااعمى، أنا، وأنت وغيرنا، طالما ما زلنانعتقد ونؤمن بأن العمى يصيب العين فقط.
اقتباس اعجبني
من مسرحية السندباد البحري
(بلادكم حِلوة حِلوة بس الوطن ما له مثيل)