هناك مقالات تكتب عن موضوعات محددة فيكون من السهل اختيار عناوينها اما تلك المقالات التي تشعر ان كلماتها تثقل عليك ان لم تسكبها على الورق فربما لن تبالي ان وضعتها تحت عنوان عام.
قرأت عدة مجلدات في سلسلة فيض الخاطر وتكرر عنوان في الهواء الطلق عدة مرات و رغم هذا في كل مرة تجده يحمل بضعا من نفسه و روحه فليس هناك اصدق من حوارات النفس و لا ننكر ان الجلوس في رحاب الطبيعة يحفز على نسج هذه الحوارات.
سرح تفكيره في فكرة ان الانسان يحسب نفسه مركز الكون و يتعامل على هذا الاساس ماهما حاول انكار الفكرة و برغم انانيتها الشديدة الا ان بها نسبة كبيرة من الصحة و لكن لكل انسان دنياه الصغرى و الكبرى اى ان لكل فرد منا مجموعة أولويات تختلف عن الاخر وهذا نابع من إختلاف الفوارق و الموافقات بين كل فرد واخر.
❞ إن كثيرًا من المتاعب ليس سببها المتاعب نفسها، ولكن علتها النفس التي تنظر إلى الأشياء على أنها متاعب، ولا يمكن تغييرها حتى تغير نفسك، ولكن كيف ذلك ونحن المتاعب؟ إننا في دنيانا كالعصفور في القفص ندور فيه ونحن نحن والقفص القفص ❝
وبعد ان تكونت لدي فكرة تجاه الحديث مع النفس و قنعت بفكرة صدق الحوار مع النفس عن اى حوار أتى بكلماته ليقنعني بفكرة مغايرة عما ادركت فنفس الانسان احيانا ما تخدعه ليس لشئ سوى انها تأبى الاعتراف بنقيصتها فلعل علينا ان ندللها و نهدهدها كي تخرج الينا ما في جعبتها.
هذا غير فكرة ان كل ما يبدو للعامة او حتى لانفسنا من تصرفات و سلوك و ردود فعل هي في الاصل نابعة من تراكمات داخلية على مر الزمان فاسلوب تربية او مواقف مررنا بها قادرة على التحكم في سلوكيات يخفى علينا سبب فعلها الحقيقي فوراء كل فعل خبيئة لا ندركها في وقتها الا بعد الرجوع بالذاكرة إلى الخلف و اكتشاف بواطن الامور.
❞ وهكذا كل أمور الدنيا، ظواهر تستر البواطن. ❝
ومن الجلوس امام البحر الى رحلة في الصحراء الى رحلة نيلية ومن العزلة الى تجمع الأصدقاء الذين يتجاذبون اطراف الحديث فتولد نقاشات مثمرة عن كل شئ من داخل لقاءاتهم فمن حال المجتمعات البشرية الذي يسير على ثلاث مراحل او ادوار يحكم آخر مرحلة منهم العقل ، إلى الضحك و انواعه و اسبابه و اختلافه بين جماعة و اخرى بل و وجهة النظر فيه ما بين علماء النفس و علماء الاجتماع فلكل رأيه ، و لكن أكثر ما جذب انتباهي أن المرء في رأي علماء الاجتماع لا يضحك بمفرده غالبا على نكتة خطرت على باله و قد فكرت في هذه النقطة و تساءلت أحقا هذا؟! فالفكرة غريبة.
واخذني سؤالا الى آخر ، احقا للضحك تأثير على المجتمع ؟! و الاجابة نعم ليس فقط لانه يدخل البهجة على القلوب و لكن ايضا لعلاقته بتوثيق العلاقات بين افراد المجتمع و نبذ السخرية والاستهزاء.
وقص علينا من الحكايات عن اقليم في الهند يجتمع اهله كل مائة عام و يتميز فيهم من حضر الاحتفال السابق و توالت فيه العظات و النصائع و رويت الحكايات عن عمر مضى و ذكريات رحلت و ملوك و سلاطين عدلت او ظلمت ثم لم يبق منها شيئا غير سيرتها و حين اتى دور الخطيب لالقاء كلمته اقتضب قس حديثه و لكنه افاد الجميع.
❞ وإن الأيام أربعة: يوم مفقود وهو ما فاتك وقد فرطت فيه، ويوم معدود وهو ما مضى وقد مُلئ بعمل الخير، ويوم مشهود وهو يومك الحاضر، فاجتهد أن تتزود فيه، ويوم مورود وهو غدك الذي لا تدري هل هو من أيامك ام لا ❝
وفي زيارة سريعة إلى الأندلس في القرن الخامس الهجري وما بين ظلم و جبروت الحكام و ذكاء ودهاء الوزراء يعثر على ابيات شعر كتبها الشيخ الالبيري بعد ظلمه ونفيه خارج غرناطة ولكن دائما على مر التاريخ صوت القلم والظلم اعلى من اى جبروت فوصل شعره الى غرناطة و تداولته الالسن كما لو كان بينهم.
وقد اختار لنا الادب العربي من حكاياه ليسرد لنا سريعا عن عبد الملك بن مروان و خيانته للعهد مع عمرو بن سعيد بن العاص في الدولة الاموية بعد ان وعده بالحكم و نكث عهده هذا فاصبح لا يؤخذ بكلمته و لا ميثاقه فيا ليت جميع الحكام و الملوك يسترعون انتباههم لمثل هذه القصة.
و سرد علينا ايضا مقارنة بين امامين في الاختلاف و التشابه بينهما و راي كل منهما في الحب والعشق الذي تضمنه كتابيهما وهما ابن داوود و ابن حزم ، كما استعرض ابن حزم في كتابه علامات الحب و قرات عن تعاريف العشق و أسبابه ، و هكذا تميز كل منهما باسلوبه الخاص في كتابه و صعب الخلط بينهما.
كلما تعمقت اكثر في القراءة للمؤلف ادركت كتاباته أو على الاقل توقعتها فربما الترابط بين مجلدات فيض الخاطر امر مقصود فقد ذكر وسط مقال جمال الدين الافغاني في نجلد آخر ان الشيخ محمد عبده تتلمذ على يديه و هاهنا كتب باستفاضة عن التلميذ نفسه.
فهو يعد واحد من اهم دعاة النهضة والاصلاح في العالم العربي والاسلامي وقد شارك في الثورة العرابية و توفي في الإسكندرية.
تعددت اساليب الظلم و الحرمان في العالم و قد كتب احمد امين عن قمع الشعب المغربي في القرن العشرين فلا يصله اى كتاب او مقال ذو قيمة وقد ذكرني هذا المقال برواية فهرنهايت ٤٥١ لراي برادبيري الذي كتب عن عالم اصبح فيه امتلاك الكتب جريمة لا تغتفر و اصبح احراق الكتب امر اعتيادي لحجب الثقافة والتفكير عن العقول ، و احسب ان هذه وسيلة فعالة للقضاء على العقول و العلم في هذا الزمن كما طرح في الرواية التي ذكرتها و قد عانى الشعب المغربي كثيرا حتى اني لم اصدق ان المحرك الرئيسي لهذا القمع كانت فرنسا بكل ما حوته من تقدم و علوم و فنون.
❞ لو عذب هؤلاء الأقوام في أقواتهم ومآكلهم ومشاربهم وملابسهم لكان أقل إجرامًا من أن يعذبوا في عقولهم وأرواحهم وعواطفهم، لأنه إهدار للإنسانية وإعدام للآدمية. ❝
اعتمدت بعض مقالات احمد امين على اللعب على نهايتها/خاتمتها فاجد اني اسير في اتجاه ثم يأخذني الى اتجاه آخر ليس معاكس بقدر كونه مفاجئ فحسب.
فقد تعجبت من بداية مقاله "موقف حرج" حين وجدت ذات الزمن الذي مررت به قبلا في احد مقالات المجلد الثاني و ربما يعتبر البعض ان القصة مكررة في مجلدين ولكني ادركت اثناء القراءة ان عدسة الكاتب في كل مقال اشارت الى نقطة مختلفة فهنا مثلا كان التركيز على اتحاد الاحزاب لقتال المسلمين و كسر شوكتهم و قوة ايمان المسلمين بنصر الله بالرغم من قلة جيوشهم امام الاحزاب ، و ايضا فكرة تأليب قريش و باقي القبائل على المسلمين وتشابه كل هذا مع حال فلسطين وقتها وانقلاب امريكا و اسرائيل ضدها و يتساءل في نهاية مقاله هل حقا ما حدث من الممكن تكراره ان تكررت ذات المقدمات التي ستصل الى نفس النتائج ؟
تأثر احمد امين كثيرا بفترة وجوده في مدرسة القضاء وقد اتضح هذا في كتاباته في عدة مقالات وليست واحدة فحسب فقد تعلق و ارتبط بأكثر من استاذ وهذه المرة جمعنا سريعا بالشيخ مصطفى عبد الرازق و وصف اسلوب حياته فابدع وصفه فقيل عنه ❞ قد أخذ من الأرستقراطية أجمل ما فيها، ومن الديمقراطية أجمل ما فيها. ❝
وقد ذكر فيما ذكر انشاءه لنادي ثقافي في منزله وقد اعجبني تعدد فنون الثقافات في هذا النادي و حديث احمد امين على فكرة وجود النادي الثقافي كشئ اعتيادي في هذا الزمن.
لفت نظري ايضا كم الترابط الموجود بين المقالات فهناك مقال مستقل عن الشيخ محمد عبده وقد تتلمذ مصطفى عبد الرازق على ايده فيوحي الي الكاتب بان الدنيا حقا صغيرة للغاية.
وقد تميز الشيخ مصطفى في تدريسه للفلسفة الاسلامية في كلية الآداب فتعلق به طلابه قبل وبعد التخرج لما اثراه بداخلهم وصنع منهم رجالا لما قدمه من احترام وتقدير لمهنة التدريس وانتقل بعدها الى العمل بوزارة الاوقاف و مشيخة الازهر حتى توفي تاركا اثار قوية سواء بكتبه او اجيال عاصرته.
وارتحل بنا بعدها الى فيلسوف اخر في بغداد لم تذكر عنه الكتب كثير سوى نبذات من هنا و هناك و قد حكى عنه احد معاصريه و غير هذا لا نملك الكثير فكان ابو حيان التوحيدي واحد من عدة فلاسفة مختلفي الاديان في هذه الفترة في بغداد و حكى لنا عن ابو سليمان المنطقي الذي تميز منزله برغم فقره المدقع بانه مجمع للفلاسفة وقتها وبسبب فقره فلم يشتهر او يترك مؤلفات تخلده و لكن بقيت له اراء فلسفية هامة انتقلت الينا.
طرح أحمد أمين في كتابه موضوعا مختلفا فناقش مشكلة الغفلة لدى الناس عند توريث الوظائف و صناديق النذر لدى ضرائح الأولياء و المشاكل التي تأتي من ورائها و ضرورة اختيار الاصلح لكل وظيفة او منصب دون السير بمبدا التوريث.
ذ❞ إن هذا الجندي المجهول شعر أن باعثه النبيل أرقى من أن يناله التاريخ فيدونه، وأرفع من أن يقوّمه الإنسان فيجازي عليه ❝
واختتم كتابه هذا بمقال رائع عن مثالين فالأول مسلمة بن الخليفة عبد الملك بن مروان الذي فرقت الاقدار بينه و بين اخوته لاختلاف جنسية و الدته و اعتزاز الامة وقتها بالعرق العربي فاجتهد هو واثبت نجاحا وحده ، اما المثال الاخر فهو بلا اسم و قد خلده التاريخ رغم ذلك وعرف بصاحب النقب اما هو فلم يرد اى شهرة فقد ساعد في نصر الجيوش لله و ربما لم يرد ان يضيع او ينقص هذا.
#قراء_الجرد_فيض_الخاطر