وصلنا سويا الى المحطة الاخيرة في سلسلة اقل ما يقال عنها ان قراءة واحدة لا تكفيها بل عشرات المرات كافية لتصنع قارئ ملم بشتى الموضوعات والنقاشات كالفلسفة والادب وعلم النفس والاجتماع والدين والتاريخ والعلم ، ولم يتوقف قلم الكاتب عن سرد الماضي فحسب _ماضيه هو_بل مزج بين ماضيه و حاضره الذي يعد ماضينا نحن و رغم كل هذا لم اشعر ان ما اقراه يبعد عني بعشرات الاعوام فقلمه الحاضر الغائب.
وكما يتأثر المرء بما يحيط به من أشخاص بل و ينشأ كل فرد و آخر حسب اختلاف ما نر به فإن الأدب يتأثر بوجه عام بما يحيط به من بيئة وعصر واحداث و هذا يتضح جليا في جميع فنونه اما الادب العربي على وجه الخصوص فكاد ان يتوقف بلا حراك في العصر العباسي ومن الغريب ان العرب المخضرمين كان يمكنهم معرفة الادب الجاهلي من الادب العربي من مصطلحاته وشعره ونثره.
وقد اكد الكاتب على ضرورة تبني فكرة التجديد في الادب العربي دون ان ندع القديم تماما وعقد مقارنة بين حال الادب العربي والادب الغربي الذي سار جنبا الى جنب تطور عصره و انتقى افضل ما في التراث بجانب التشبيهات المعاصرة.
واننتقل الى نوع اخر من الفنون وهو فن الأغنية ليعرض الكاتب كلمات اغنية مرحة و بسيطة كُتبت منذ اكثر من قرنين من الزمان على يد واحد من علماء الازهر الذي عُرِف بعلمه الغزير و طرافة حديثه و كثرة محاضراته و لكني تعجبت لأمر فقد أشار الكاتب الى اهتمام علماء الازهر في هذه الآونة بالحياة الاجتماعية في دنياهم كما الاهتمام بالآخرة و يناشد لو بقي الازهر على ذات الشاكلة و لكني اذكر اني قرات قريبا في المجلد السابق عن الشافعي الذي ترك الشعر و اختار الدين خوفا من انفلات الفقه منه اذا فضل الشعر عن الفقه وقد ادى اختياره هذا الى ان يصبح واحد من الائمة الاربعة في الإسلام ، فهل حقا يجب عليهم الموازنة وهل اصلا الموازنة تتحقق بهذا الشكل؟ لا ادري
ومن شاعر إلى اخر و لكنه ليس كأي شاعر بل هو أمير الشعراء الذي شُبه بالمتنبي في عصره و قد ابدع الكاتب في وصفه و الحديث عنه.
❞ في رأيي أن عرش الشعر العربي كان قد استولى عليه المتنبي عن جدارة واستحقاق، فلما نزل عنه بموته ظل شاغرًا حتى تبوَّأه شوقي، فلما قضى نحبه لم يستوِ عليه أحد إلى اليوم. ❝
ويؤكد على ان امارة الشعر ليست بالامر الهين بل لها شروط و قواعد خاصة يجب اتباعها اولا حى يصل الى عرش الامارة و قد كتب شوقي في كل موقف حدث من حوله سواء على المستوى المحلي او العربي او الإسلامي و كنت اظن اني سافهم مصطلحات اللغة العربية و لكن استعصى علي فهمها و رغم هذا استمتعت بقراءتها
واورد احمد امين في كتابه علاقة الادب العربي بالملوك والامراء و كنت اعرف مثالا لهذا من فيض الخاطر ايضا حين قرأت عن المتنبي وابي فراس الحمداني مما منحني دراية بالامر وقد تجلت هذه العلاقة القوية منذ الجاهلية و حتى عصر نهضة مصر الحديثة فارتفع شأن الشعر كلما طلبه الملوك حتى انه في عصر المماليك لم يكن ذا قيمة لعدم فهمهم للغة العربية و عدم قدرتهم على تذوق الشعر وهكذا ظل على قائمة فنون الادب لفترة طويلة قبلها.
ولم يتوقف الأمر عند الشعر فحسب فالكتابة الديوانية و التعديل على خطابات الملوك وتحسينها كان له ايضا علاقة وثيقة بالملوك و كذلك التأليف فقد اهدى بعض الكتاب كتبهم للملوك و احب الملوك هذا و اصبح اهداء الكتب لهم بمثابة تخليد لذكراهم كبناء مسجد باسمهم.
وقد انتقى واحداً من شعراء العصر العباسي والذي عُرف باامجدد الثاني لتجديده في الشعر و محاولة أحداث نقلة ادبية في كتابة الشعر التي اشتهر وقتها بالكتابة عن الخيال و ليس الواقع كالبيداء و النوق والابل كما عُرف ابو نواس بالفكاهة و المجون و احد اهم مظاهره ميله للغلمان عن الجواري وكتب في هذا الكثير ويعد هو اول مؤسس للكتابة في هذا المجال.
ومن كثرة ما قرأت له ما ادركت انه ليس هناك احب الى قلبي من حديث الكاتب عن الشخصيات التي قرأ عنها او عاصرها و أثرت فيه فهو يتمكن من ابراز مواطن القوة جيدا والاشارة اليها دون مبالغة بل و يضعني داخل الاحداث فتخترق عقلي المعلومات بسهولة و يسر ، وتنوع الشخصيات التي يذكرها في الكتاب يمنح القارئ لذة مختلفة تحثه على التعرف اكثر و أكثر.
وهذه المرة اختار عنوانا اكثر من مناسب فالبطولة العربية عامرة بالكثير من قصص البطولة و الشخصيات التي ربما لم نسمع عن الكثير منها لذا فحين يذكر ان هذه السير ما هي الا صفحة فحسب فهو لم يبالغ ، وابو عبيدة بن الجراح صاحب لقب امين الامة وصلت بطولته من مكة إلى الشام فعاش محارب قوي و سياسي محنك و توفي وسط جنوده حين اصابه الطاعون فأبى المغادرة و استاذن الفاروق ليتركه في مكانه وسطهم.
وجميعنا بالتأكيد يعلم الكثير عن بطولة صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطين و تحرير بيت المقدس و لكنه لم يكن وحده بطلا في هذه الفترة ولا اقصد اى تقليل منه بل اقصد ان التبحر في التاريخ يفتح لنا الافق على آخرين كنور الدين و اسامة بن منقذ الذي حارب بسيفه ايم حروب و دافع عن شيزر وغيرها بكل ما اوتي من قوة و حين أشتد عليه العجز لم يصمت صليل سيفه بل ظل يكتب شعرا و يحث غيره على القتال.
وقد اضاف الى حائط البطولات بطولة اخرى ليس لها مثيل من ذاك النوع الذي يحدث مرة واحدة في العالم و قد انقسمت إلى جزئين اخلاقي و عقلي فالأول ليس غريب عنه وهو الفاروق اما الثاني فقراته وانا اشعر انه كان اسطورة حقا فكمّ النظام و التخطيط الذي سار عليه في كل شئ سواء الحروب او الأموال و القدرة على التحكم و الإدارة ، كل هذا صنع منه أسطورة بقي اثرها حتى الان و يكفي انه قيل فيه حين اسلم ان الاسلام اعتز به.
ومن عدل الفاروق الذي لم يكن عليه غبار إلى عدل مشابه ولكنه في عصر مختلف فالايام تتوالى و الاشخاص تتكاثر و يتم التنازل عن بعض المبادئ و يبقى البعض ثابت لا تهزه ريح الوساطة و المحسوبية و من ضمن هؤلاء كان محمد عاطف بركات - ناظر مدرسة القضاة الذي تعرض الى مضايقات عديدة لثباته على موقفه و لكنه قاوم كل هذا وبقيت مدرسته ثابتة كالجلمود بل و اثرى عقول الطلاب و المدرسين بها بنقاشاته و أفكاره التي طرحها بينهم و حين عمل بوكالة المعارف و اختلط بالسياسة لم يتمكن من الاستمرار لتعارض الوضع وقتها مع مبادئه التي اعتاد عليها.
فالسباحة ضد التيار ليست امر هين خاصة في وسط مجتمع يواظب على السير على خطى الأجداد، وقد اكد الكاتب على أن الشرق والغرب كليهما سقط في بئر عبادة الماضي بشكل ما و لم يعبأ بالعواقب بل إكتفى بالتقليد الاعمى ، لذا أحيانا ما يتم تكرار الاخطاء بحذافيرها.
واشار الكاتب إلى كون الابتهاج لدى الشرق قدره اقل من الغرب لعدة اسباب منها انتشار الفوضى لدى الشرق بدرجة اكبر و تعرضنا للاستعمار بصورة اكبر و اختلاف الناس في قوة ابتهاجهم من شخص إلى اخر و ملاحظة الفرد الاكثر كآبة هو الاكثر تفكير في نفسه و في المستقبل و باختصار فهذا المقال دعوة للبهجة و البحث عنها فهي تمنح صاحبها قدرة اكثر على الكفاح و المقاومة بدلا من كونه هش و ضعيف تسقطه اى ريح.
وقد زاد من اثراء الكتاب مقاله عن المرأة العربية في زمنه هو و كشف عن تعليم المرأة وقتها و اكد ان التعليم يجب الا يكون مقتصر على فئة دون الأخرى وإلا يكون وقتها لازال قيد الانتشار واشار الى ان دور المراة كبير تجاه اسرتها و تجاه المجتمع وختم مقاله هذا بأن المرأة خلقت لتصنع رجالا عظماء و ياتي بعد كل هذا الجهلاء الذين يفسرون ناقصات عقل و دين على حسب أهوائهم.
و انتهت سلسلة فيض الخاطر بالحديث عن مرحلة عمرية هامة للغاية ضمن مراحل الانسان الا وهي الشباب فتحدث عن مدى اهمية هذه المرحلة مقارنة بالمراحل التالية و ايضا عن كون المرء هو الوحيد القادر على اكتشاف ملكاته و قدراته دون غيره و اورد بعض طرق التربية لهذه المرحلة الهامة من خلال تركها لتخوض التجارب وحدها دون مساعدة من الاباء و عرض بعض اسباب فشل المرء في هذه المرحلة.
و كما ذكرت قبلا فان هذه السلسلة تستحق أكثر من قراءة فقراءة واحدة بالتاكيد لا تكفيها و لا تمنحها ما تستحق.
#قراء_الجرد_فيض_الخاطر