«وأخيرًا عرفت بشر تلك الأرض لقد جاءوا إليّ بأنفسهم، أحاطوا بي، وقبلوني. أبناء الشمس -أبناء شمسهم-كم كانوا رائعين! ما رأيت في حياتي جمالًا كجمالهم على أرضنا، وهل بالإمكان أن تجد صورة ولو باهتة من جمال هؤلاء الأطفال في أطفالنا حديثي الولادة! عيون هؤلاء البشر السعداء كانت تشع ضياءً ونورًا. ووجوههم تشرق حكمة ووعيًا يبلغ أقصى حدود الهدوء والرزانة، في أصواتهم وكلماتهم كانت ترنُّ نغمة سعادة طفلية. وقد فهمت كل شيء من النطرة الأولى إلى وجوههم... إنها الأرض؛ قبل أن تلطخها الخطيئة، وعليها يعيش البشر دون خطيئة، يعيشون في هذه الجنة التي تناقل البشر أن أجدادنا عاشوا فيها قبل أن يرتكبوا آثامهم، مع فرق واحد هو أن هذه الأرض هنا إنما هي جنة في كل جنباتها وجهاتها. كان الناس يضحكون من حولي بجذل ومرح، يقتربون مني ويمازحونني، ثم مضوا بي إلى منازلهم وكل منهم يحاول أن يرفه عني ويسليني، وما سألوني عن أي شيء، وكأنهم كانوا يعرفون الأشياء جميعها؛ هذا ما بدا لي... لقد كان همهم أن يطردوا تعابير العذاب عن ملامح وجهي».
«يقولون الآن إنني ضللت الطريق، وما دمت قد فعلت ذلك فإلى أين سأصل؟ وهذه حقيقة لا غبار عليها: لقد ضللت وقد تسوء الأمور أكثر في المستقبل. ولا شك أنني سأضيع أكثر من مرة قبل أهتدي إلى سواء السبيل، فأعرف كيف عليّ أن أبشّر وبأية كلمات وأفعال، لأن هذا الأمر في غاية الصعوبة وأنا أعلم هذا وأراه واضحًا كالنهار منذ الآن، لكن اسمعوا... من منا لا يضل الطريق! ومع ذلك نسير جميعًا إلى غاية واحدة أو لنقل يسعى الجميع إلى نهاية واحدة، من الحكيم حتى آخر مجرم، وإن اختلفت السبل، ربما كانت هذه حقيقة قديمة ولكن إليكم الجديد: أنا إن خُدعت فليس إلى زمن طويل لأنني رأيت الحقيقة، لقد رأيت وعرفت أن البشر يمكن أن يكونوا رائعين وسعداء دون أن يفقدوا القدرة على الحياة فوق سطح الأرض».
«لقد رأيت الحقيقة ولم أختلق الأمر ذهنيًا، لقد رأيتها... رأيتها وامتلأت روحي بنموذجها الحي إلى الأبد، شاهدت تجلّيها المطلق ولم أصدق أنها لن تتحقق عند البشر. وهكذا... كيف لي ألا أضل وأنحرف؟ بالطبع سيحدث ذلك أكثر من مرة، وقد أتحدث بكلام غريب ولكن ليس لوقت طويل؛ فالنموذج الحي الذي رأيته سيبقى معي دائمًا؛ يصحح لي ويوجهني... ها أنا ذا شجاع، وفي نضارة الشباب وسأمضي وأمشي ولو ألف سنة. لكن الحقيقة سرعان ما وشوشتني: إنني "أكذب"، وبالتالي حفظتني وسدَّدت خُطاي، كيف يمكن أن نبني الجنة؟ لا أدري... لأنني لا أستطيع أن أعبر عن ذلك بالكلمات، بعد حُلمي ذاك ضيّعتُ الكلمات على الأقل؛ الكلمات الرئيسية كلها، الضرورية جدًا. ومهما يكن: سأمضي وأتحدث دون كلل، لأنني قد عاينت بعيني هاتين حتى ولو لم أستطع وصف ما رأيت».
«في النهاية أعلنوا أنني أصبحت خطرًا عليهم، وسيحبسونني في بيت المجانين إن لم أصمت، عندها نفذ الحزن إلى نفسي بصورة شديدة، أحسست أن قلبي جراءها قد انقبض بقوة وأنني أموت... وعندها، في تلك اللحظة صحوت من النوم».
سمعت عن دوستويفسكي كثيرًا ولكني لم أقرأ له أبدًا، وما إن رأيت أن عدد صفحات تلك الرواية التي لا صفة يمكن أن تحيط بجمالها يتعدى العشرين صفحة بقليل قررت قراءتها إلكترونيًا مجبورًا لأنني لا أحب القراءة الـ Pdf، ولكن هذا دوستويفسكي وليس أي كاتب.
ما هذه الروعة التي لا يمكن أن تُوصف، فعلًا صدق من قال إن من أراد النظر إلى النفس الإنسانية بصورة مختلفة فليقرأ لـ دوستويفسكي، فلسفة فيسكي الروسية تأخذ القارئ بعيدًا وتأسره في براثنها الحانية، براعة وصفه لكل حدث يأخذ القارئ إلى عالم مختلف تمامًا عن الواقع، فقسوة وصفه لمشهد ملاقاة الرجل للطفلة الصغيرة وأمها تحتضر، وفلسفة وصفه للإنسان الذي يعيش على كوكب الأرض الآخر الذي رآه في الحلم، ورؤيته لكثير من الأمور مثل الحزن والكذب والشر بطريقة مختلفة تمامًا عن المعتاد، كل ذلك تجسد في تلك الرواية الصغيرة الأكثر من رائعة بأسلوب نقي من الخزعبلات والترهات والإطناب الذي لا فائدة ترجى منه، والتقييم للرواية: 10 من 10.