الحمامة.. شوائب نفسية!
هذه هي المرة الثانية التي أقرأ فيها (لباتريك زوسكيند) ولم تكن المرة الأولى – بالطبع - أقل فخامة من هذه المرة، ذلك أن الكاتب وحياته وأهدافه تجعل القارئ أكثر تمسكاً به، وبحثاً عنه بشكل لا شعوريّ، غير أن أكثر وأقوى ما شدني إلى رواية (العطر) رائحة فرنسا التي لا نعرفها والمنسابة بين السطور والتي كنت أشمها فعلياً بين وقت وآخر بالذات حين يلوح للعين اسم زهرةٍ ما/ عطرٍ ما.. بينما جاءت رواية (الحمامة) بعد قراءتي كثيراً عن (باتريك زوسكيند) وانتباهي فعلياً لحياته التي شدتني إليها الترجمة المختصرة الواردة عنه في الكتاب فحفزتني لأبحث عنه أكثر. ففكرة أن تقرأ رواية ما وأنت تعرف كاتبها جيداً، تجعلك تشعر أنه قريب منك أكثر – حتى - من روايته التي تنتصب بين يديك الآن، وتلك فكرة تستحق الدراسة والتوثيق والبحث فيها أكثر، فكرة تتعلق بالتواصل الفكري والشعوري، تتعلق بتسليم العهدة من جيل إلى جيل، وتتعلق كذلك وأخيراً – حسب تخيُّلي – بفكرة الالتحام المشيمي قبل الخلق ومع الذر.
ذلك كله بالإضافة إلى أن شخصية البطل تشدك فعلاً وتشدك جداً لدرجة أن تلاحقه في كل مكان وتدخل إلى نفسه لتتعرف بشكل قريب إلى درجات الشعور وأشكال التفاعلات حال النظرة، وحال اللمسة وحال الشم وحال التذوق، حين تنزلق إلى داخل جسد البطل ومخه وعقله من أي ثغرة تركها الكاتب عمداً أو عن طريق السهو. لترى في الداخل كل ما تشعر به، ما يمر بك من قريب أو بعيد/ بشكل عميق أو سطحي/ عابث أو منظم/ غريب أو معتاد. هذا السيناريو المنظم والمتكرر غير روتيني وغير سيء إطلاقاً.. لكن المدهش في علاقتك به وعلاقته بك فعلا هو أنك لا تنتبه أبداً إلى أنه سيناريو، غير أنه سيناريو حقيقي يشدك من حيث لا تعلم لتنزلق كلياً وترتكبه خطيئة بملء روحك ونفسك رضى عنه.
إلى هذا الوقت – على الأقل – لم تتكون بيني وبين (زوسكيند) علاقة تستحق أن أكتبها وأوثقها وبالرغم من أنني تعثرت بسيرته الذاتية، بعد قراءة رواية (العطر) والتمرغ في البؤس الواقعي مع استنشاق رائحته بين سطر وسطر، (العطر) قصتها وبطلها لم يجعلاني أفكر في الكاتب، لم يعطياني الفرصة، بينما (الحمامة) فلا.. لأنني – على الأقل – قرأت شيئاً عنه فذهبت لأتعرف عليه أكثر، لقد شدني الكثير من مفترقات الطرق في حياته وتأثرت بها حتى الاندماج، بينما لم يغب عن بالي – أبداً - خلال قراءتي لـ (الحمامة) وجه (هيجو – بجلاله وهيبته وبمجموعاته التاريخية وحضوره الطاغي طغيان اسمه إذا قرئ بالعربية) مع عصى البؤس التي يلوّح بها، غير أن القرف والتقزز في بعض المشاهد كاد يجعلني أرمي الرواية بعيداً ولا أعود إليها. لكن الحضور الصارخ للبؤس في مشاهد المتشرد وغرفة الفندق وشخصية (جوناثان) وغرفته وبؤس أفكاره حتى، كل ذلك كان يستحثني على الإكمال كلما هبت فكرة ترك الرواية جانباً، وفعلاً فقد أكملت قراءة الرواية في وقت قياسي جداً.
لغة (زوسكيند) متينة كَسور عظيم، إنني أتخيل أنه في علاقته مع لغته الأم رجلٌ وفيٌّ لا يدرك وفاءه للغة وفاء، حدّ أنه لم يتساقط من روايته أي جزء أو ماسة فخامة حين تم نقلها إلى العربية، ولست أدري إن كان المترجم (عدنان أبو الشامات) شغوفاً مثلي بالنسق اللغوية الجذابة حتى ينقل الحكاية بكل هذا الاتقان، ومع أنني لا أتقن في الألمانية إلا بعض المصطلحات الخفيفة والسهلة، إلا أن تألق اللغة في روايتي (زوسكيند) اللتين قرأتهما فعلاً؛ جعلني أؤمن أن السر في لغة الكاتب وليس فقط فيمن ينقلها إلى العربية. إنني أعلن شغفي الجزيل بلغتها وكذلك بالموصوفات والصفات، التراكيب اللغوية، شدة التركيز على كل تفاصيل الصورة، والتدقيق مع تضييق العدسة عند النظر للتفاصيل الصغيرة، والحقيقة أنني شغوفة بكل هذه التفاصيل، وأقف عندها طويلاً حتى لو كانت مقززة (للأسف) لقد أحببت الرواية، أحببت الأسلوب وعشت مع البطل كأنني أعشش في مخه وأشاركه كل متعلقاته الداخلية والخارجية، المعنوية والمادية، النفسية والجسدية، وحتى عقله الباطن وذاكرته المغبرة، النهاية كانت مفاجئة وجاءت مخالفة للتوقعات التي كانت تنط إلى مخيلتي خلال التهام هذه الوجبة الألمانية الفخمة. وهذا ما أتوقعه من رجل يجيد رسم السيناريوهات المدهشة لخطوات بطل يصنعه ولا يبدو أبداً أنه يعيش في ثوبه مثل (زوسكيند) بالطبع، بينما لا يمكنني الجزم بأنني سأتوقعه من أي (جوناثان) يعيش بيننا، وتزحف صفاته كوباء خفيّ تمطرنا بعدوى محببة.
إلى جانب الإغواء الصريح في جسد الرواية، لغتها، تعبيراتها، أسلوبها كان يطوف في أنحاء عقلي سبب آخر يقنعني بعدم اضطراري لتبرير هذا الإعجاب فهي خفيفة مركزة قليلة الصفحات، يمكنك التهامها في ساعة زمنية واحدة فقط، يشبه البطل فيها صانعه كثيراً في جانب التركيز على كل مليمتر مربع من التفاصيل ومن عدة أبعاد، يشبهه كذلك في قول ما يريد بنظرة أو إيماءة فهو غير ثرثار أبداً، شيء أظن أنه مهم أيضاً، أن الرواية ليست مصابةً بالإيحاءات الجنسية التي لا لزوم ولا مبرر لها، فقد بت أعتقد أن دس تلك الإيحاءات في الفن والأدب هو مرض هذا العصر الفنيّ بامتياز عالٍ في التشخيص.
تلك الرواية مرتبطة جداً بالإنسان أنى وجد، وكيفما كان يحيا، ذلك أن نقطة التركيز في العقل لديه والتي تقع غالباً في الجزء المنسدلة عليه ستائر كثيفة، تجري فيها - بحكم الظلام المحيط وأشياء أخرى مساندة – عمليات غريبة وغير مفهومة تحيل بعض الرموز العادية جداً إلى أيقونات تبعث الرعب، التوتر، القلق، الغضب، العصبية الدموية، الجنون والخوف بدرجة أقل حدة... إلى غيرها من النتوءات، الشوائب، الانتفاخات، و"الكلاكيع" النفسية المختلفة، هذا تماماً ما قصده (زوسكيند) في روايته وفي حكيه لقصة (جوناثان) الخمسينيّ الغريب، الوحيد، الأعزب، المتردد، المريض، الطامح للسفول، المختبئ في زوايا وانثناءات الحياة، المريض بالوسواس، المقهور، والظامئ للقاء نفسه أولاً ومنذ عقود.
من قال أن الروايات كجنسٍ أدبي خلقت ونشأت فقط للفضفضة؟ للمتعة؟
إنني أمقتُ صراحة، كل من تصوّرُ له مخيلته أن الروائيين والحكّائين هم مجرد أدوات ودويات تحركهم شهوة الحكي وحسب، وأمقتُ معهم أولئك الذين يساهمون في ذلك حين يصدرون ما لا يمكن أن يكون سوى شهوة حكي وحب ظهور فقط، فيؤكدون للمرضى لؤمهم الصريح باتهام الأدب وأهله المخلصين. وكأنني بدوح الأدب ومنابعه النقية الصافية، وأنهاره العذبة تجيدُ التمنّع فلا تمنح نفسها إلا لمخلص، كي لا تلتقطها يد عابر غير مؤهل، وتحرّم نفسها على تلك الزمرة التي تحاول اصطياد الشمس في محاولات متتابعة، ولمّا لا يسعفها الحظُّ فتعْلَق الشمس بصنارتها، تتخيل مجازاً قميئاً أنها قادرة على خلق دوح مشابه يمكنهُ أن يطيح بالدوح الأصل أو يخلخل كيانه، فلا يلبثُ أن تنكشف سوأة مرضه وتفوح رائحة عطن مائه ويشفّ حوضُ نفاياته عن تلوثه بالأقلام الدخيلة، كأنَّ نفوساً نجسة تغتسل به كل ذات نزوة!
لست – أبداً - في معرض الحديث عن أهداف وظروف وفوائد ورسائل هذا الجنس الأدبي، وأي جنس آخر يجري التعدي عليه، ومحاولة إهانته صراحة، فالروائيون والحكاؤون – غالباً – هم أناس طاعنون في الثقافة، معجونون بطين الحكمة، وقد وازنت التجارب والخبرات وقفة الحياة وانتصاب الأحداث بداخلهم. لأن هذه المنحة الإلهية لا يمكن لأي كان أن يدرك درّ أحشائها، ولأنَّ هذا التفكير يراودني كلما قرأت اللائحة الخفية وراء سطور عمل أدبيّ قيّم. وإنني من وجهة نظري المتواضعة أرى أن (الحمامة) هي إحدى تلك الأعمال الروائية التي تستفز في داخلي هذا الجانب من التفكير. وقد وثقته اليوم لأتخلص من حمل الأمانة التي يحملني إياها الإيمان الأزلي بالرسالة والهدف.
سماح ضيف الله المزين
غزة في/ الأحد: 22 ديسمبر 2013م