حقيقة، لا أعلم من أين أبدأ؟ كُنت قد عزمتُ على قراءة هذه الرواية من أجل أن أغلق باباً أو أفتحه على مصراعيه.. فالكاتب هو حالة غريبة بكل تأكيد..
فبعد ثلاثية جيدة ومُتماسكة كان تضم التالي: "فيرتيجو" و"تراب الماس" و"الفيل الأزرق" تبعها الكاتب بثلاثية أقل منها بكثير وكان محتواها: "1919" و"أرض الآله" و"موسم صيد الغُزلان".. فما الفرق بين الأوائل والأواخر؟
بكل تأكيد الموضوع.. فأول ثلاثة كان موضوعهم الجريمة والتشويق والإثارة وفي الفيل الأزرق بعض الخوارق والهلاوس.. لكن في آخر ثلاثة أعمال اتبع الكاتب نهج جديد.. التشويق عامل موجود ولكنه ليس الهدف الأكبر.. الهدف الأكبر هو زرع رسائل من خلال الكتابات.. وبكل تأكيد ليس لدي مشاكل مع زرع أو رزع الرسائل.. ولكن لدي مشاكل مع شاكلة الرسائل نفسها.. وهل هي مُتسقة مع العمل أم لا. فكانت هذه الرواية هي الفيصل.. هل مُراد -والذي يُعد واحد من أفضل كُتاب الجيل وأسوأهم- سيكون من حزب الثلاثية الأولى أم حزب الثلاثية الثانية في روايته الجديدة والسابعة:
لوكاندة بير الوطاويط.
بمُجرد صدور الرواية رأيت سيل من الآراء عنها لشهرة مُراد الواسعة وذكاء دار الشروق في التوزيع والدعايا.. وكانت أغلب الآراء سيئة فشعرتُ بضيق في حلقي.. وقلت لن أحكم عليها حتى أقرأها بنفسي.. لن أنفر منها كما نفرت من "أرض الآله" وسأحكم بنفسي.. جردت نفسي من كل المشاعر السيئة.. عصرت على نفسي أطناناً من الليمون.. وكانت الرواية -صراحة- تعجبني حتى الثُلث الأخير. فما الذي حدث؟
قبل أن أحكي لك الذي حدث فدعنا نتحدث عن الرواية نفسها.. الرواية بطلها مدعي نبوة حشاش وأفيونجي فلو وجدته يفعل كُل البذاءات ويقوم ليصلي الفجر لا تلومه.. فلو وجدته يسخر من الأنبياء لا تلومه.. فلو وجدته يسب ويلعن لا تلومه.. فالكاتب وضعها كحجة جاهزة للرد.. البطل مدعي نبوة، ماذا تعتقد أنه سيقول؟ وكانت هذه الحجة مُقنعة لي.. فأنا هُنا ليس من أجل السم في العسل الذي يدسه مُراد.. لا أنا هُنا من أجل التشويق والجريمة والذي والحق يُقال كانوا في أفضل أحوالهم وهم أفضل ما في الرواية.. ولكن المهم في كُل ذلك أن يكون التركيز الكامل على خط سير الأحداث والجريمة والتشويق.
فلو كانت على البذاءات والخيالات والسخرية من الأديان.. فهل لم تقرأوا موسم صيد الغزلان؟ لديها أكثر مما كُتب في قاع البير هُنا بكثير.. مشكلتي ليست مع الألفاظ والجنس الذي أصبحوا من سمات مُراد الكتابية.. فكُلنا نقرأ الأدب المُترجم وكُلنا نرى أسوأ من ذلك فيه.. ولكنه يكون مُبرراً.. وليس مصرياً خالصاً.. فذلك قد يُثير حفيظة البعض وبكل تأكيد لا مشكلة لدي معهم.. فهذا رأيه وقناعاته.. وهذا رأيي وقناعاتي.
ولكن هذه الرواية نُقطة ضعفها الأكبر هي النهاية.. فبعد كُل تلك الجرائم والخيالات والشخصيات الغريبة والعالم الغريب الذي رسمه مُراد بدقة سياسية واجتماعية وغرائبية وطبعاً جنسية كالعادة.. فكان من المُفترض أن يكون التركيز الأكبر على الجريمة.. صحيح؟ غير صحيح.. وجدت نفسي أقرأ حل جريمة لكاتب عديم الخبرة، كاتب وجد نفسه في مأزق فأنهى الرواية بسرعة ودون تكلف مع أول حل جاء في عقله.. ففهمت وبيُسر أن "مُراد" هذه المرة لم يكن تركيزه الأكبر مع الجريمة وحلها.. لا.. كان تركيزه الأكبر على أن يضع أكثر جُمل جدلية وتساؤلات عن الأنبياء وسخرية وذم.. والفكرة أنه جاء في ملعب صعب.. فالأنبياء كُلنا أو أغلبنا قد قرأ قصصهم ونعرف تماماً أنهم أبعد ما يكونوا عما وصفه.
إذاً فمُراد خدعنا وأوهمنا أنه يكتب رواية جريمة من أجل أن يبخ سمه ببطء ولكن بثبات طوال أحداث الرواية.. ولتذهب النهاية إلى الجحيم فقد كتبتُ ما أريد وسيجد من يُهللون له ويُصفقون ويمدحون.. وإن كُنت أتمنى أن يجد فيها البعض رواية جريمة سيئة ولا يراها كما رأيتها أنها دعوى للسخرية وذم الأنبياء. ولو كُنت تعتقد أن هذه رواية جريمة جيدة.. فبكل تأكيد أنت ظلمت أهم روايات لمُراد.. وهم: فيرتيجو وتراب الماس.. هُناك الجريمة حاضرة وبدون أي فذلكة ولا سُخرية من مٌقدسات.. بعض الألفاظ المُرادية الخالصة وجريمة خالصة.
لا أنكر أني وجدت نفسي مأخوذاً بسحر الرواية حتى أكثر من ثُلثيها.. مُراد -شئنا أم بينا- يتطور في الوصف والتدقيق في الكلمات.. والبحث.. صدقوني قام مُراد بمجهود جبار في هذه الرواية.. وهذا واضح.. ولكن ما ضايقني أن كُل هذا المجهود ضاع هباءاً من أجل إرضاء لغرور مُراد.. غروره الذي صور له أن مُحبيه سيتغاضوا عن أي شيء يكتبه وأنه أصبح مُخول ليكتب عما يُريد بأي طريقة يُريد!
فنعم أنا أحب كتابات مُراد كما أسلفت الذكر، الثلاثة الأوائل ذلك ما جعلوا له رصيد يجعلني أقرأ الثلاثة الأواخر، ثم جاءت السابعة لتُخبرني أن رصيد مُراد أصبح ليس صفراً ولكنه أصبح بالسالب.
شيطان "مُراد" أقنعه أنه لا بُد أن يكون جدلياً لا بُد أن يتحدث عنه الجميع.. لا بُد أن يسمع ويقرأ الجميع أن مُراد يسخر ويذم الأنبياء.. ليكتسب تلك الحالة التي يُحبها نشوة الشعور بأنه جدلي.. الجميع تحدث عني.. أنا مُراد.. فمن أنتم؟
رُبما هُناك شجرة لبلاب في منزل "مُراد".. لكنها ستكتب هذه المرة بخطوط واضحة..
لقد سقطت.
وبكل آسف، أغلقنا ذلك الباب الذي تمنيت أن أفتحه على مصراعيه.. ذلك الباب الموارب تم غلقه.. ولكني بشر أولاً وأخيراً.. والباب خشبي.. فقد يأتي شخصاً على هيئة هجين قمري ويكسره.. ولكن حينها رُبما رُبما يكون يستحق ذلك.
وداعاً مُراد.. تلميذ العراب الذي سقط.