ولن يهرب أحد من مصيره.. ولا من اختيار فرضته عليه حرية الإرادة! ❝
هكذا ارادت شرين هنائي ان تختتم الجزء الاول من سلسلة صيد فيل محنح وتضع القطعة الأخيرة من البازل الذي نسجته علي انغام الاستغاثة "مايداي.. مايداي" لحظات الارادة الحرة ومدى اختلاف القرار بين من يأمن العقاب فيسيء الادب وبين من " لا يحترم أحد نفسه إلا إذا عرف أنه مُراقب، وسيُعاقب".. هذه هي المعضلة هل اذا ضمن الانسان انه غير مرئي ولن يُعاقب علي فعلته.. سيفعلها؟؟
المراقبة الذاتية للانسان هي محركه الاساسي ام انتماؤه الديني وقرارته المبنية علي الحلال والحرام ام فقط للصواب والخطأ وهل نسبية الصواب والخطأ تمنح الانسان حرية التأرجح بين القرارات بين ما يراه صوابا وبين ما يراه غير ذلك وهل هناك عقاب علي جريمة لم تقع بعد ؟! دوامة من الاسئلة تمنحك شيرين هنائي جرعة مكثفة منها في عدة صفحات وتترك لك الارادة الكاملة في تحديد الاجابة بنفسك.. ولنفسك.. ولكن لا تنسي هناك دائما من يُشاهد.
"الضغط هو العامل الأخطر في تحويل المُسالِم إلى مجرم"
الحياة المادية الركض المستمر حول النجاح لا الفلاح وحول تحقيق الذات ومركزية الانسان حول نفسه ومهارة المستغلين في وضع الاشخاص تحت دائرة الدوافع المخيفة بحثا عن تحقيق ذواتهم كما يترائى لمن يمسك بأذرع التحكم في الانسان بعدما اصبح لعبة في ايدي من يديرون العالم من خلف شاشاتهم ولعلك شاهدت الجريمة التي وقعت قبل اسابيع عن الطفل الكويتي الذي حرض شابا علي قتل طفل صغير مقابل مبلغ من المال وحول صديقه إلي جثة مقابل لا شيء.
وهذا يجعلنا نتذكر ما قاله المنفلوطي في كتابه النظرات :"إن حدود حرية الإنسان التي تفرضها عليه الطبيعة، أشبه برقعة الشطرنج وقواعده، فهي ليست مُصممة لتقييد حرية لاعب الشطرنج، على العكس بل إنها تكفل له حقوقه ومسئولياته، وتحدد حركة كل قطعة بطريقة تكفل للاعب الحرية الكاملة في تحريك ما يملك من قطع بطريقة مجدية لتصبح حركاته ذات معنى". وهذا يجعل مراقبة الانسان لنفسه شيء وتحكم غيره بمجريات حياته مع اعطاؤه شعور السيطرة المزيف شيء جهنمي وفي هذا شرح لمقولة شوبنهاور" لا شك في أن المرء يختار ما يريد، لكنني أخشى أنه لا يختار ما يريد!
"هل تتخيل إبداع الإنسان، عندما يعرف أنه غير مُراقب؟!"
وهنا نتذكر ما قاله د مصطفي محمود: أردت أن تفهم إنسانا فانظر فعله في لحظة اختيار حر .. وحينئذ سوف تفاجأ تماما .. فقد تري القديس يزني وقد تري العاهرة تصلي.. وقد ترى الطبيب يشرب السم.. وقد تفاجأ بصديقك يطعنك وبعدوك ينقذك .. وقد ترى الخادم سيداً في أفعاله.. والسيد أحقر من أحقر خادم في أعماله.. وقد ترى ملوكاً يرتشون وصعاليك يتصدقون..!
فقط اترك له العنان وسترى قدرته علي التلون التفنن في شرور النفس البشرية فالتحرر من القيود والمراقبة وضمان عدم العقاب يمنحه تحرر تطوق نفسه إليه طوال الوقت لذلك متى تحينت الفرصة فلن يفلتها بالتأكيد.. وهذا يجعلنا ننتقل إلي الجانب الآخر من الانسان حين وصفته هنائي فقالت "أنبهر بقدرة الإنسان على الرفرفة بأجنحة الملائكة علنًا، ثم الوخز بقرني الشيطان سرًّا." طالما انه سراً.. او كذلك نتخيل.
أعجبتني الحركة المدروسة والالتفات بين تفكير يحيي ومريم الدخول من الماضي للحاضر تحول المشاهد بين الفلاش باك وبين رؤية الحدث الحالي التحول من عقل يحيي كبطل لا يدري انه في قصته ربما يكن بطلا لكن في قصة غيره هو فقط اداة لمن يشاهد او كومبارس صامت في قصة من يدفع.. لذلك الأدوار متبادلة ومتغيرة على حسب رؤية من يدفع ومن يشاهد ومن يؤدي دوره في قصص الآخرين مع قصته دون علم أو دراية.
الدارك ويب وما يحويه من شرور النفس الانسانية ومن جحيم الحرية طالما هناك من يتعطش ويدفع وبين من يطمع ويُلبي فالامر تكاملي ولابد للاطراف ان يتفقوا ولو ضمنيا على اركان القصة وان وقع الكثيرون فالفخ لكن ذلك يخدم طبيعية القصة ويرسم بُعدا حقيقيا للاحداث طالما ان التلقائية هي الهدف وهي شرط متعة المشاهد او كما عبرت عنه واصفة "الجريمة المثالية.. حتى القاتل فيها لن يعرف من الذي حرضه على القتل".
رواية مشوقة وثرية رغم قلة عدد صفحاتها إلا انني لم اتعجل في انهائها لكني استمتعت بكل فصل منحني مدخل للتفكير والبحث والسير وراء المعاني وتدعيم الافكار بالبحث وراء الفكرة وان كانت ضمنية او مجرد جملة وردت على لسان احد الابطال لكنها بالطبع لم تُذكر اعتباطاً وهذه هي نوعية الكتاب التي احب ان "أتجول " معهم في كتاباتهم.. الكاتب الذي يجعلك بشكل ما ممسكا بقلمك تدون الافكار التي تتأجج في عقلك وانت تطالع كتاباته وتعلم انك لن تنتهي من القراءة وتطوي صفحات الكتاب كأنك لم تمر به.. تأكد انك لن تصبح كما كنت قبل القراءة.تماما كما كان يفعل د. احمد خالد توفيق في كتاباته وهذا ليس مستبعد على تلميذ نجيب للدكتور.
اتشوق للجزء الثاني وللرحلة القادمة بصحبة يحيي ومريم ورمزية اسماءهم والتي اتمني ألا تطول غيبتهم ولكن حتى هذا الحين دعنا نفكر ونبحث حول ما ورد في الجزء الاول من السلسلة وان ضقنا الانتظار فلا سبيل لنا إلا ان نبعث لهنائي برسالة وجيزة كي تُسرع في اصدار الجزء الجديد واظن انها ستفهما ببساطة " مايداي.. مايداي.. مايداي".
اقتباسات
❞ أنا من جيل ما زال يحب ملمس الورق وأثر الحبر العفوي عليه. يحب البقع والخطأ والمحو وإعادة الكتابة. يحب آثار خطواته على الأرض المبتلة، كأنها تأكيد أنه لن يُنسى ولن تذروا ذكراه الريح. ❝
❞ تقصدين مذابح الحروب، أو المذابح الدينية، أو الإبادة العرقية، أو اختيار من يُعالج ومن يموت؛ حسب الحالة المادية ولون البشرة، أم مذابح الصمت على كل هذه الانتهاكات؟ المذابح لن تتوقف، وليس أمامك إلا خياران؛ أن تكوني ضحيتها أو مرتكبتها. ❝