فكل يوم كنت إخالُ نفسي ميتًا هذه الساعة هذه الدقيقة أو اللحظة التي أنا فيها، ونسمع صافرات الإنذار ووراءها بقليلٍ أزيز الطائرات التي تهاجم، تكون بعيدةً عنَّا، إلا أن الأزيز ذاته كان يرعبنا وخاصةً أول يوم من أيام الحرب وربما الثاني أو الثالث وبعد ذلك تعوَّدنا، وكانت أقدامنا تندفع بأقصى سرعة وفي كل الاتجاهات، وربما نجري على رصيف أحد الشوارع ولمسافة ثم نتلفت حولنا ونرتدُّ عائدين إلى المكان الذي كنا فيه، كنا مُشتَّتين، خائفين، والعقل كما لو أنه شُلَّ شللًا خفيفًا أو في أدنى الحدود في حالة ارتباك..
والعيون مُستنفَرة، تتلفَّت وتحسب وتقيس بل وتجمع وتطرح وتضرب وتقسم، تُجري عملياتٍ حسابيةً من ثلاث أو أربع خطوات على الأقل وتحذر أصحابها من مَوَاطِن الخطر، ونشتمُّ رائحة بارود فنحسب أنها آتية من بناية أمامنا أو خلفنا أو في الشارع المجاور، وبأقدامنا المتعبة نطير بعيدًا عن مصدر هذه الرائحة، ثم يتبين لنا فيما بعد أنها كانت بعيدة، هناك على أطراف بورسعيد، عند كوبري الرِّسْوَة أو عند الجبَّانة أو ناحية زرائب القابوطي، الأنف هو الذي اُستُفزَّ لحظتها وأتى بأضعاف ما له من قدرة، صار كأنوف الدِّبَبة التي تلتقط الروائح من بُعْد أميال، أو الأصح أنه لم تكن هناك رائحة بارود من الأساس ونحن الذين توهَّمنا ذلك، ففي هذه اللحظات الصعبة لا مقاييس صحيحة ولا متزنة وقرون استشعار الخطر التي فينا تغذينا بما نتوقعه لا بما ندركه بالفعل، فلا خلايا عاقلة وراءها تُنقِّي وتُفلتِر، الخلايا إما مُجهدَة أو مرفوعة مؤقتًا من الخدمة.
بورسعيد 68 > اقتباسات من رواية بورسعيد 68 > اقتباس
مشاركة من إبراهيم عادل
، من كتاب