تلوح لي هذه الأماكن بين الحين والحين وصورة طِبْق الأصل مما كانت عليه وقتها، كما لو أن بالرأس أجهزة تصوير بالغة الدقة وبأيادٍ متمرسة..
تلوح وتبتسم وتشير وتغازل، وأنا في حالة من الاستسلام والنشوة كما لو أنها الساحر وأنا المسحور..
فليست الألفة - وإن كنت قد قلتُ هذا قبل قليل - هي التي حبَّبتني في هذه الأماكن، ولا الأمر مجرد دفقة نشوة تنتابني الآن. لا هذا ولا ذاك..
فبكل أسف أخطأت في التعبير، فالألفة بضعة حروف لا تفي ولا تصيب، ودفقة العاطفة أشبه بفورة زجاجة المياه الغازية عندما يُنزع غطاؤها وسرعان ما تتلاشى، الأمر فوق ذلك بكثير وعصيُّ على أن يأتي في كلمة أو يحتويه تعبير، فعندما نتذكَّرُ ما هو غالٍ علينا، عزيز رحل، موطنًا كان يومًا مرتعًا للصِّبَا أو أول الشباب، زمن راح وراحت معه أعذب السنين..
عندما نتذكر..
لا يعمل الخيال وحده أو تشتعل فينا حاسَّة دون الباقيات، تتحرك أغلب الحواس، فليست أطياف عوالمنا القديمة هي وحدها التي تلوح، الروائح أيضًا تلوح وتداعب الأنوف: قطرات مطر ربما سقطت في موقف أو لحظة محملة بروائح غبار أو أوراق شجر صادفتها، أو رائحة عطر أو جسد في موقف مختلف، أو لفحة بارود ملأت السماء من جرَّاءِ دَوِيٍّ وانفجارات حرب الاستنزاف التي شغلتنا في هذا الوقت الصعب..
كذلك الأصوات التي سمعناها من سنين تتلقاها الأذن، وكما لو أن أصحابها معنا الآن ويتحدثون، والنظرة والالتفاتة والضحكة والعبوس، واللمسة بطراوتها أو خشونتها، بل وكأنَّ قدمَيَّ تتجولان في دنيا فاتت وتعيش اللحظة التي عاشتها من قبل.
فالأمر لا هو ألفة ولا دفقة شجن واشتياق، كل هذا كلامٌ في العموم، فعلى قدر ما تتغشَّانا اللحظة وعلى قدر سحرها تخفُّ أجسادنا وكأننا على تخوم عالم الروح، وتتلبَّسنا طاقةٌ من طاقاته بسحرٍ يحيطنا من كل اتجاه..
سحر من عالم غير عالمنا، لا نفهم شيئًا من أسراره ولا حتى السر الذي فينا ويجعلنا قادرين على الاندماج فيه، سحر نعيش فيه مع الموتى، أماكن كانت أم أَنَاسًا، وكأننا نراهم ويروننا نكلمهم ويكلموننا، ونخوض بأقدامنا لا في أماكن بعيدة بل وفي أزمان بعيدة، ونلبث في هذه النشوة دقائق أو أكثر أو أقل نعود بعدها بشرًا محدودي الإمكانات..
بورسعيد 68 > اقتباسات من رواية بورسعيد 68 > اقتباس
مشاركة من إبراهيم عادل
، من كتاب