- إلي الذين يحاولون ترميم خراب العالم -
في الكثير من الأوقات نسمع عن منظمات العمل المدني والتطوعي، حينها يكون الحديث عن الهيئات والأفراد الذي يُكرسون من أوقاتهم أو يُعطون مقداراً ما من المال أو الجهد لمساعدة الآخر في ظل أزمةٍ تكون نَزَلَت به أو جائحة عامّة وقعت علي مُحيط كامل او مجتمع كبير.
وحيث أن منطقتنا أصبحت - وللأسف - موبوءة بفعل الحروب والنزاعات العسكرية المُستمرة، فإن نصيبنا من الأسي الإنساني أكبر بكثير مما تحوية شاشات التلفاز أو تعرضة نشرات الأخبار، أصبحت كلمة اللاجئين تتردد كثيراً في الأُفُق، ظهرت نكباتهم علي السطح وتراكمت مع الوقت بشكلٍ يجعل الحلول تخرج عن سيطرة المنظمات والهيئات المدنية والاجتماعية التي حتي وإن ساعدت فإن إمكاناتها محدودة ومُقيدة بإطار مُعيّن.
في ظل كل هذه الأجواء العامة الصعبة والأزمة الطاحنة التي تخص أهلنا بالجوار ندخل إلي هذه البؤرة العميقة التي تبتلع اللاجئين بين الغربة والونس، وإن كُنت لم أقرأ من قبل في هذا النوع من الكتابات والذي تحدث الكاتب في مقدمتة عن ندرتها وقِلتها، فإن باسم الجنوبي بالنسبة لي من الرواة الثقاة الفاعلين لذا سأقبل شهادتة هو ومن سيروي عنهم.
يبدأ الكاتب أولي فصولة بالتذكير بأهمية التطوع علي المستويين الفردي والجماعي، لأن كونها أهمية ذاتية تنبثق عن رغبة في مساعدة الغير والإحساس بالأثر الذي يتركة الإنسان في غيره حتي وإن لم يكن يعرفة، فإنها حتماً تنمو بالذات وتخرج من إطار الفرد إلي مُحيط مُجتمعه لترقي به نحو الأفضل.
فكرة العمل التطوعي قديمة، ضاربة بجذورها في التراث العربي والإسلامي وهو ما استعرضه الكاتب في أحد فصولة مُستشهداً بآيات من القرآن الكريم وحكايات من تواريخ العرب القديمة، ثم ينتقل بعدها الي الحديث عن الواقع العربي الحالي، فيُبَسط أهمية التطوع وأثره الكبير علي تنمية الدولة ومُساندتها في عوامل النهضة ويضرب نماذج غربية لذلك قبل أن يدخل إلي مراحل تاريخ التطوع المصري منذ نشأته حتي الآن.
وكان لابُّد هنا من الإشارة إلي الوضع الذي أصبحت عليه جمعيات العمل الخيري ومؤسسات العمل التطوعي من سوء إدارة وخطط عشوائية أحياناً، ومن تفريغ مُتعمّد وقديم تمارسة الأنظمة السياسية للحد من فعالية هذه الجمعيات وتلجيم دورها ونشاطاتها في أُطُر مُعينة مما أدّي إلي حالة كبيرة من التقاسع والبُطء والخمول علي مستوي الحركة التطوعية وانعكس بدورة حتي علي مستوي الفرد الذي أصبح مُنكفئاً علي حيّزة الضيق الوثيق الذي لن يجلب له المتاعب.
إشكاليات كبيرة ومهمة وحقيقية عُرِضَت هُنا في هذا الفصل كان أكثرها صدمة هو إحصائية قُدِّرَت فيها تبرعات المسلمين السنوية لبيوت الزكاة بمبلغ ضخم جداً، عُشرُه فقط يكفي لحل مُشكلات الجوع والفقر بالعالم! وهو ما أُشير له من الكاتب بأن فكرة العجز ليس لها وجود ولكنه إهمال وفساد ممزوج بسوء إدارة وغياب تام ومؤكد لفقة الأولويات الذي من المُفترض أن يُنفق علي أساسه من هذه الأموال.
تتعدد التعريفات الاصطلاحية لكلمة لاجئ لكنها بالكاد تُشير إلي نفس نوع الحالة التي يكون عليها وصف هذا الإنسان وهيئتة، هارب من وطنة، فار من دياره بسبب صراع أو اضطهاد عرقي أو ديني أو جنسي أو حتي مناخي.
كل التعريفات والتوصيفات تُشير إلي نفس المعني بأزمته التي لا تنتهي بل بالعكس تتفاقم وتزداد حِدة مع الوقت وتصير بمرور الأيام أعنف وأقسي علي إنسان بسيط كل ما يبحث عنه هو الحياة فقط.
يدخل بِنا الكاتب إلي منطقة أدب المجهر، يُشير بيده إلي أسماء بعينها، تطول القائمة التي تحمل في طيّاتها مئات القصص والكتب والحكايا وتأريخاً طويلاً لسيل من الظلم التاريخي الذي يُسطرة كل كاتب في إطار حكايتة المكتوبة.
تترافق الأرقام والإحصاءات بأن أفريقيا والشرق الأوسط هُم أكبر مُصدري النزوح والهجرة في العالم، يتآكل قلبي مع الأرقام التي ظاهرياً ساقها الكاتب بسهولة وكتبها جنباً إلي جنب بشئ من الروتين العادي، لكن كل هذه الملايين هي بالأساس بشر! لهم أحلام وطموحات وحياة، لكن كل ذلك تحطم علي صخرة احتدام الحروب وأزمات الأوطان التي لم توفر لساكنيها حتي أبسط مقوماتها المكفولة لها بالحياة وهي الأمان.
وفي مُؤخرة الحديث عن حال اللاجئين ودولِهِم التي شردتهم ويلاتها لم يعف الكاتب أوطانهم من التقصير تحت ادعاء الفقر أو سوء التصرف، بل ساق الأدلة الدامغة علي أن بلدانهم غنيّة بخيرات الأرض من الذهب ومُشتقاتة التي لا غنيً للناس عنها، ولكنه الفساد من ناحية والتوغل الاستعماري الخارجي من ناحية أُخري وتواطؤ الأنظمة التي تدفع مواطنيها وبلدها إلي الخلف بدلاً من أن تستنهضدها إلي الأمام.
تعددت النكبات وتكاثرت حكاياتها وازداد الوضع ألماً وصعوبة، لكن النتائج ظلّت بالنهاية واحدة، مُتشابهة الأسباب والمآسي وتتشارك مع غيرها نفس اللحن الخفيّ المقيت الذي يجذب الأرواح ليُزهقها لا لينجدها من بؤس الحال وقتامة الواقع.
الكلام في عمومة عن اللاجئين وقضيتهم صادم الاحصائيات مُرعبة والكاتب في كل الفصول يُعطيك جانباً مُختلفاً من زوايا الأزمة التي تعجز كل مؤسسات العمل التطوعي والمجتمعي المحلية والدولية علي احتواءة والتعامل معه بما يليق وضخامة الحدث!.
الكاتب أدخلنا إلي خِضَمّ كل مسألة بخصوصيتها وعرض علينا بداية أزمتها ونشأتها التاريخية وصراعات البُلدان التي أوقعت مواطنيها تحت طي اللجوء إما داخل أوطانهم أو خارجها، فلسطين أم الشتات والأزمة الكُبري التي لم تُحَل حتي الآن، ورغم أن هذه القضية عتيقة وقديمة إلا أن بلداناً نجحوا بسلطويتهم وبشاعة جُرمهم أن يتجاوزوا أرقامها التي حققتها عبر عقود من الصراع، ليبيا وسوريا واليمن والسودان، ومن أزمات العرب لمشاكل لاجئي أفريقيا القارة الأكثر تصديراً للجوء حسب ما أوردة الكاتب في إحصاءاته،
ليس المروع هُنا هو هذه الأرقام التي تضمّنت ملايين النازحين ولكن عندما قارن الكاتب بين التعاطي المجتمعي الدولي مع الأزمة الأوكرانية الروسية وكيف تعامل الغرب مع النازحين الأوكران وبين ما تنتهجة المؤسسات الدولية في التعامل مع أزمات العرب والأفارقة شعرت بالاشمئزاز والقرف، من الازدواجية ومن السياسة العالمية التي لها اليد العليا بالتأكيد في توجيه ودعم منظمات العمل التطوعي وإعطائها كل الصلاحيات والأولويات لتفريغ الأزمة وسد حاجيات الإنسان مادام من بني جنسنا ويحمل نفس هويتنا وأفكارنا فيجب أن يُحاط بكل سُبُل النجاة والأمان، أمّا غيرنا فيمكن أن نُحيطهم بأسلاك شائكة وأسوار عالية كي لا ينفذون إلينا، أو نُلقي إليهم المساعدات جواً أو نُعطيها لحكوماتهم كي تمنع عبورهم أي طريق يؤدي بهم إلينا، وإن كان لابُدّ فالقليل من الدعم سنُلقيه إليهم رغم حاجتهم للكثير لأن أولوية حياتهم لا تعني لنا شيئاً.
ليس من عادة أستاذ باسم اليأس أو التباكي علي أحوال الغير - حتي وإن كان بحق - دون سياق الأمل فيما هو ممكن أن يُفعل لنجدة هذا الغير ومُساعدتة بكل الطُرُق والوسائل المُتاحة والتي يستحقها لأجل أن يُقيم حياتة العادية حتي وإن كان في غير وطنة الأصلي.
ساق باسم العديد من الأمثلة الناجحة التي فرّت بحياتها من سطوة الموت في أوطانها وصنعت لنفسها وجوداً في سياقات ومجالات الحياة المُختلفة، ساسة ومُبرمجين وكُتّاب من جنسيات مختلفة كانت تجاربهم ناجحة وفضلاً عن لحاقهم بركب الأمل أعطوا لمن خلفهم بريقاً مُشِعاً في أقسي أوقات الظلام الحالك.
ثم استعرض التجربة الألمانية الناجحة في إدماج اللاجئين في المجتمع الألماني الذي تعامل بشكل جدي ومختلف ومنظم جداً ومنضبط من السوريين عقب الأزمات التي حلّت بهم وشردتهم، وكان حثيثاً أن يتحدث الكاتب بصدقٍ عن مصر، أم العرب والتي لا تُغلق أبوابها أبداً في وجوه ضيوفها ولا نصفهم بكلمة لاجيء ولا تُسكنهم الخيام في مناطق بدائية معزولة عن عمق الدولة، فضيوف مصر يعيشون جنباً إلي جنب مع أهلها ويسري عليهم ما يسري علي أصحابها.
باسم الجنوبي فتح أعيننا بهذا الكتاب علي أكبر مما نراه بالحيّز الضيق بين شاشات التلفاز وعواجل المواقع الإخبارية، وأعطانا أُفُقاً أبعد لأزمات اللاجئين من نواحي متعددة وبإحصاءات وأرقام شتي، الرجل ساق بعادية وسط حديثة أن ثلاثة من أبنائة موجودون تحت وطئة أزمة إنسانية طاحنة يتعرض لها أهلنا في القطاع مع ما يقارب السبعة أشهر!.
بين الغربة والونس " جهد استقصائي بحثي اجتماعي تاريخي مرموق يشهد علي قذارة العالم وتواطئة في صناعة الأزمات أكثر من محاولة مُعالجتها، لكن في كل نفق مُظلم بارقة أمل بالنهاية، والغربة بصعوباتها ومآسيها يُمكن أن تهون بقليل من الونس، حتي وإن أتي الونس هُنا في سياق الكلمات التي تُناصر أصحاب الحق وتدعم قضيتهم الإنسانية وحقهم الأساسي بالحياة.
شكراً أستاذ باسم الجنوبي 🙏.