بعدما حازت روايته "خبز على طاولة الخال ميلاد" على جائزة البوكر العربية لعام 2022، كنت اترقب جديد "محمد النعاس" عن كثب، لما لمسته من إمكانيات وبوادر محتملة واعدة لكتابات جيدة في روايته السابقة، وكان جديده هو رواية "العراك في جهنم"؛ رواية قصيرة لا تتجاوز الـ125 صفحة، من داخل قرية "جهنم" وحكاياتها الشعبية المتداخلة والمثيرة للدهشة والمتعة، ورغم ذلك وجدت بطل الرواية الأساسي هو الراوي نفسه، والسرد الجذاب والساخر طوال أحداث الرواية، سخرية مضحكة ستنتزع منك ضحكات وابتسامات، وسخرية سوداء من الوضع والأفكار والمواقف الهزلية وطريقة التعامل الجدية معها، شخصيات لا يحكمها المنطق، ولا يحكمها أي كود اخلاقي معروف، شخصيات متباينة في القرية التي ولد فيها القائد "معمر القذافي"؛ ولذلك دلائل ورمزيات عديدة.
كما قلت بالأعلى، بطل الرواية هو السرد والراوي نفسه الذي يُشركك في حكايته، يسخر منك ويتفاعل معك ويُشجعك على التفكير بداخل الحكاية، سرد ساخر وفكه رغم مأساوية الحكاية التي تغرق في الضلالات والعادات والتقاليد، والوطنية وحب القائد وأشياء أخرى، عندما تنظر إلى كل شخصية من شخصيات الرواية على حدى تجد أن لديه معضلاته الحقيقية، معاناته التي تنقض عليه نومه أو صحوه، معضلات تتباين من السيطرة على قرية وزعامتها إلى الحاجة إلى كوب من الشاي ليروي ظمأ مُدمنه، الحكاية التي تغرق في المحلية ستجدها تتشابه بكل سهولة في أي بلد يتنوع شعبه، فيُمكن للقارئ أن يُقارن ويربط بين ما يحدث وبين بلده، ويجد فيها الكثير من التشابهات وذلك، مما يجعل الحكاية لا تقتصر على بلداً واحد، بل، تتشعب إلى كل الشعوب التي يحكمها قائد ظالم يُجيد شعبه تآليهه، وتمجيده، وتعظيمه.
الرواية على قصرها ذاخرة بالإحالات والمواضيع، وأظن أنه رغم تحذير وسخرية الكاتب من تحميل الحكاية أكثر مما تحتمل، إلا أنه لا يمنع من وجود بعض الرمزيات والدلالات، سواء كانت شديدة العمق أو شديدة الوضوح، ولكن، حتى لو جردت الحكاية من أي رمزية، ستجد حكاية مُمتعة مُثيرة للتساؤل، والسخرية، وتؤرخ فترة لقرية جهنم المعمرية، ورؤية الشعب لما حوله.
لا أنكر أن خطوة اختيار السرد بهذا الشكل هي خطوة جريئة، سيجدها البعض غريبة وغير مستساغة، لكني وجدتها فعالة وأحببتها، وهو ما يؤكد على قدرات الكاتب ويزيد أنه يحب التجريب ولا يكتفي بشكل معين، أو نمط واحد، فهذه الرواية مختلفة تماماً عن "خبز على طاولة الخال ميلاد" شكلاً وموضوعاً، ولكنني، أحببت بدرجات متفاوتة الروايتين على اختلافهما، وأظن ذلك مؤشر واضح على حبي لكتابات الكاتب الليبي "محمد النعاس" وبكل تأكيد لن تكون آخر قراءاتي له.