"كان سؤالا واحدا يشغلني ساعتها : هل محو مبنى يحوي في الوقت نفسه محوا للمتن ... فكلما تمحو مبنى تمحو معه الحكايات التي تقطنه ؟ ام ان اعمار الحكايات أطول من اعمار المباني التي تحملها؟"
المقدمة : -
هناك بعض الأعمال التي حين تقرأها تنتابك حيرة شديدة ما بين رغبتك في الكتابة عنها وترشيحها للجميع وما بين شعوري بأنها أكبر من ان اكتب عنها .. اكبر من قدرتي على التعبير و لكن صور معلقة على السور صعبة النسيان .. صعب قراءتها وتجاوزها.
فإلم أكتب عنها سأظل في حالة من التعلق اللامنطقي بعمل واحد دون القدرة على الاندماج مع غيره .. سيظل هناك جزءا مني حبيس صفحاتها.
ربما ستشعر ببعض التيه وأنت تسير فوق أمواج البحر الهادئة .. تخشى الغرق في ذلك البحر الذي ليس له قرار .. تخشى الملل الذي لو تمكن من التسلل إليك فلن يتخلى عنك بسهولة و لكني أخبرك ألا تخشى الإقتراب .. فأحيانا في الاقتراب نجاة.
"كتب على احد المطويات "اهلكتِ الايامُ الاشياءَ و الاشخاصَ تباعاً .. لم يتبق من كل هذا الصخب القديم الذي ظل يطن من حولي كل هذه السنوات الطويلة التي عشتها سوى السور العتيق"
البداية :-
تبدأ الرواية بالعثور على مطويات في كل مكان في المنزل الذي تسكنه *نعمات* ابنة قاسم بك وحفيدة شامل باشا .. تركيبة غريبة بعض الشئ ولكنها تحدث ، وهي أيضا تعد شاهدة على ما يحدث في قطعة الأرض التي تقبع أمام منزلها منذ أن كانت فتاة صغيرة تساعد والدتها في ناصبة الشاي.
شخص ما يضع تلك المطويات في جميع أنحاء المنزل وتعثر عليها *زينة* تلك الفتاة التي لا تذكر الكثير عن ماضيها قبل سكناها لمنزل نعمات وشبه حبسها فيه ، و تبدأ في سرد القصة من خلال سد الثغرات التي تنقص المطويات .. تسرد بعض ذكرياتها و طريقتها لمعرفة أكثر عن الأحداث الحالية و الماضية من خلال حارس المنزل الذي تمنحه من أجل أن يخبرها بما يعرفه عن قصة نعمات وعدة شخصيات أخرى تدور و ندور إياها داخل احداث الرواية ، منتقلة ما بين الماضي والحاضر على حسب المطويات التي تعثر عليها و على حسب فصول الحكاية التي تكتبها من خيالها.
تقف حائرا امام عنوان أول فصل او أول راوي في الرواية "زينة فقط" ولكنك ستدرك الامر فيما بعد فلا تتعجل الأمر.
المكان :-
يعد المكان هنا هو بطل الرواية فإذا اعتبرناها مقسمة إلى فصول فالعامل المشترك بينهم جميعا هو قطعة الارض التي سميت بأرض المشتل القديم الذي حاول *شامل باشا* الحصول عليه سواء بطرق شرعية أو غير شرعية بعد أن كانت ملكا لنظير أفندي اليهودي ثم ورثها قاسم بك بعد وفاة والده واستغنى عن جميع الممتلكات على طاولة القمار حتى وصل به الحال إلى الإستغناء عنها هي أيضا برغم قربها من قلبه ، خسرها أمام الخواجة مانشيني الذي حقق عليها حلمه وبنى مصنع شوكولاتة كامورا ثم بقيت الأرض ملكا للحكومة بعد التأميم لبناء مصنع صواريخ لم يتم بناءه ثم تحولت إلى خرابة يسكنها قطيع من الكلاب بصورة دائمة و بعض البشر الذين يأتون اليها و يذهبون .. وتمر عدة أعوام اخرى يتم فيها بناء السنتر لمالكيه الجنرال ميمي و السيدة زيزي.
الزمان :-
ما قبل اوائل العشرينات وحتى الستينات التي تبدأ بها الرواية في مشهد واحد ثم نعود إليه فيما قبل النهاية بقليل ، وقد كنت أتوق أثناء القراءة للوقوف على زمن محدد و لكن الأحداث المحيطة كانت هي العلامة التي تشير إليه و قد كنت أثناء القراءة مسحورة بهذا الزمن.
الشخصيات :-
في رأيي من الممكن تقسيم الرواية الى ثلاثة فصول حسب تعدد الشخصيات في كل فترة زمنية و لكن تظل الشخصيات الرئيسية *نعمات شامل - زينة فقط*موجودة كما هي ، فهناك فترة قصيرة تحكي عن شامل باشا و رغبته في إنجاب صبي بعد عشرات الفتيات حتى يرزق بقاسم بك و رغبته الثانية في جمع ما يشاء من الأراضي الزراعية.
وهناك فترة طويلة تحكي عن *الخواجة مانشيني و صديقه جاك المصري و ايما مورانتي* و عصابة المافيا و مصنع كورونا الذي كان يعمل به مانشيني وتمثال الغزالة شعار المصنع و فكرة إختيار هذا الشعار تحديدا والذي تأكدتُ من صحته لكونه تفصيلة من أجمل التفاصيل المذكورة في الرواية ثم قراره لامتلاك مصنع كامورا للشوكلاتة الذي لم أتوقف عن البحث عنه في كل حدب وصوب ، وحينها أدركتُ أن الخيط الفاصل بين الواقع و الخيال انقطع تماما ولم يعد له وجود فالمشكلة ليست في التباس الأمور أحيانا ما بين الاثنين ، بل أصبحت أبحث عن كل تفصيلة لعلها واقعية ثم أعود لأذكر نفسي أن *محمد صفوت* هاهنا يمارس لعبته فينسج عالماً من الخيال حول الحقيقة فيختلط الحابل بالنابل .. أبحث وأتساءل لعلي أعثر عليهم بين طيات التاريخ ، لدرجة إنني فكرتُ أراسل المؤلف متسائلة عن كون مصنع كامورا حقيقي ام لا ثم عدت لرشدي وقلت وماذا بعد؟! تعلمين جيدا انك أنتِ من تتمني وجود البناء نفسه والعمال وحريق المصنع في الواقع و لكن في حقيقة أن الامر كل ما يدور حوله حقيقي إلا هو. .
والفصل الأخير حسب تقسيمي أنا كان لميمي المسمى بالجنرال و السيدة زيزي زوجته و حبه لها الذي وصل حتى النخاع واشتراكهما في بناء السنتر الذي مثل صورة مصغرة لحال البلد في هذه الفترة فلم يكن هناك أى مانع لإرضاء جميع الأطراف فهناك دور بأكمله مخصص للأزياء الإسلامية و للمحجبات و سطح السنتر يمتلئ بكبار البلد و والخمور والراقصات و الكل موافق فالشيخ عبود الذي يعد رمزا للتطرف الإسلامي ارتضى بالامر.
عدة شخصيات تبدو فرعية و لكنها ترمز لكل شئ يدور في المجتمع فدائما ما تختلط السياسة بالمجتمع مؤثرة على طريقة حياته *كأحمد ضرغام* الذي اختار الصمت وسيلة للهروب و 'يحيى خليل* الذي اختار الصعود على أكتاف الاخرين وسيلته ، ونتيجة لكثرة الشخصيات فقد كنت أخشى أن أفقد تركيزي ولكني حتى لو تجاوزتُ مانشيني فلا يمكن نسيانه لكونه بالنسبة لي علامة فارقة في الرواية ، ولا أدري لعلي فقدت شغفي في هذا الفصل.
السرد :-
برغم صعوبة الرواية في كتابتها و حاجتها للتركيز في قراءتها إلا أنها كُتِبت على نار هادئة حتى نضجت تمام النضج فكم تساءلتُ أثناء القراءة عن كيفية كتابتها و سرحتُ بخيالي في مسودتها التي ربما كانت مرسومة على شكل شجرة عائلة لكي يتمكن من إظهار كل شخصية في وقتها المناسب ، لكم أتمنى أن أراها بعيناي حقا.
لم يغفل المؤلف حتى أن يسرد الأحداث على لسان قطيع الكلاب الذي يسكن الخرابة مسقطا عليها وضع البلد و الأشخاص نفسهم من خلال إستبدال الزوجة بعد أن أصابها الضعف بعد الحادثة و الخروج برفقتها والخوف عليها في بداية بحث القطيع عن الطعام أما المشهد الذي لا أنساه وكأني رأيته ولم أقرأه وقت مساعدة الزوجة الضعيفة مكسورة الجناح في أول ولادة للأخرى.
اتبع المؤلف أسلوب سرد ممتع ربما انتابني بعض الملل منذ ظهور الجنرال ميمي و الست زيزي ولكن لا يعود هذا لأسلوب السرد نهائيا بل لأني كنت تقريبا بدأت في فقدان الشغف ، تعدد الرواة و تكرر سرد الاحداث على لسان البعض منهم و لكني لم اشعر بأي رغبة في تجاوز قراءتها.
النهاية :-
لا انكر إنها كانت صادمة للغاية وغير متوقعة و لكنها في ذات الوقت كانت انسب ما يمكن ان يقال فبعد كل هذه الاحداث و الصراعات ما بين الشخصيات اتت تلك النهاية المثالية لتقنعني بكمال تقييمي للرواية ، نهاية من ذاك النوع الذي حين تصل اليها يبدأ فمك في الاتساع و يتضاعف تركيزك لاستيعابها وانت تتساءل .. حقا؟!!
رأيي ككل :-
كما ذكرتُ آنفا فرواية صور معلقة على السور لم تكن بالنسبة إلي رواية اعتيادية مرت علي مرور الكرام بل شعرت بمتعة رهيبة أثناء قراءتها حتى إنني قرب منتصف الليل أخذت قرار شراء شوكولاتة كورونا من أى بائع لكي تكتمل الصورة و يزداد مذاقها جمالا.
رواية اتضح فيها جيدا كم القراءة والاطلاع الذي أدى لخروجها بهذه الصورة وعلى هذه الشاكلة و توقعي أنها سوف تلاقي مزيدا من النجاح.
سور مانشيني علقت عليه جميع صور الشخصيات التي ذكرتها الرواية .. لم تعلق أمام أعيننا و لكن كلما نظرنا إليه سنراهم وهنا تاتي اجابة الاقتباس الذي بدأت به مراجعتي ، ففي رايي انا ان اعمار الحكايات اطول من اعمار البنايات.
وللامانة الادبية فالرواية تستحق اكثر بكثير مما كتبت و اعي جيدا اني لم اذكر كل شئ ولم أوفها حقها.