مقالي النهاردة بموقع الكتابة الثقافي عن رواية "عودة ثانية للابن الضال":
يمكنني أن أصف تلك الرواية بأنها مدهشة. أراها تميزت عن غيرها. فإن نظرنا للرواية مجملا وخاصة الافتتاحية الموسيقية لأغنية “ليلة حب” لأم كلثوم، والتي غلفت مقدمة الرواية الموصوفة وتمهيد وجود بطلها، قد نجد بشكل ما ملامح الطريق الذي ستسير عليه الرواية بكونه وصفا خالصًا قد يكون معتادًا لوصف البيئة الشعبية.
بتتابع سير الرواية وملاحظة استخدام الكاتب للجمل الطويلة نسبيا أو المتتابعة بالفواصل. بالإضافة للوصف التفصيلي لأصل انفعالات الشخصيات ووجودها في بعض الأحيان، تتضح أمامنا أهمية تلك الافتتاحية الموسيقية باعتبارها بوابة تضع لتلك البيئة وصفا مناسبا من جهة. وتسعى لتحليلها والكشف عن ما وراء حركاتها وانفعالات ناسها الموصوفة بالعشوائية والاضطراب من جهة أخرى. فكأننا نسمع من أول الرواية لآخرها سيمفونية قوية، تتفاوت أدواتها بين الصدارة وتغليف المشهد، وبين الخفوت وتكوين أثرا خفيفا لإعطاء نكهة خاصة مكملة، وبين محاولات عابثة ملاحظة من الظل، تسعى لصدارة مؤقتة لتظهر بشكل منفرد ولو لبضع دقائق.
وهنا يصل الكاتب سريعًا لمقصده برأيي، فقد أراد التحرر من الآلية التقليدية لرسم الصورة، ولو قليلا فقط. لأن التحدث عن الجو المحيط بالحواري والأزقة، يلزمه أحيانا أن يصفها كما هي عليه، فتصير شخصيات الكاتب مأسورة بذلك الجو. ليؤثر ذلك على تطويع الكاتب لفكرته، وفوق كل ذلك قد يشعر القارئ-وخصوصا إن كان من أبناء البيئة الشعبية-من وجود على الأغلب مكون مفقود في الرواية. وذلك لاختلاف المناطق عن بعضها ولو حتى في معاملات بسيطة، لكنها تضع العمل بلا روح
لذا كان اختياره لأم كلثوم تمهيدا جيدا جدا، لأن لها مردود شعبي قوي يوحد من خلاله تلك المناطق المختلفة، وينزع عنها اختلافاتها البسيطة. ومنه تظهر بروية وبساطة صورة عالية الدقة لصورة البيئة-كما كان الغلاف- تضح فيها الفلسفة المخفية وراء كل حركة-فنرى تغيير الكاتب للفظ “بلطجة” إلى “برمجة”- وكذلك المزجية الغريبة التي بها هويات متعددة -فنفهم ارتداع بطل الرواية حمادة أوريو عن مضايقة شخصية عائشة معن مثلما يفعل مع نساء الحي، لأنها فقط استجارت بالأولياء- لتصل إلى وجود مزيج بين العقائد في عقول الناس على الأغلب.
-هكذا تكلم نصر أوطة “صبغة مغايرة لقوانين نيوتن”
يبدأ ظهور تلك الفلسفة، في وجود بطل الرواية “حمادة أوريو” والذي تحمل صفاته وملامحه النصيب الوافر من لقبه، لنراه مرهف الحس نال من تدليل أمه ما يكفي لكي يرغب في دفع ثمن ذلك بالمودة والأفعال الحسنة. وقد نال بذاك التدليل أيضا حرية، فينطلق مصفرا بأحلامه وشغفه. وذلك إشارة للإنسان في أول لقاءه بالدنيا بعيدا عن كنف أمه، مغمورا بأثر حنانها وإشفاقها عليه، فيظن أن الدنيا رحبة لتحمل شغفه وأحلامه، كما كانت شخصية أم حمادة أوريو صبورة في أن تحمله للمترو كل أسبوع، لإعجابه به واندهاشه.
إلا أن تلك الآثار الطيبة تتهاوى سريعا مع أول صدمة، وبمجرد “تهويشة” بسيطة تقلب الإنسان من النقيض إلى النقيض. خاصة وإن كان مفتقدا للمرونة التي تجعله يتكيف مع صدمات الدنيا. فنرى أثر الصفعة الخفيفة التي هوى بها مدرس العلوم على حمادة أوريو في جعله يرى الوجه الحقيقي لواقعه، وتمكنه من التقاط مقتضيات مكانه. بداية من تعامله مع زعيم عصابة العفاريت الزرق “إسلام عكة” في إعطاءه شطائر المرتاديلا مقابل الحماية، مرورا بنصائحه مثل “اللي يصعب عليك يفقرك” أو “البني آدم براس كلب لا يحترم سوى من يضربه عليها” إلى إقرار تاجر السمك المعلم “نصر أوطة” بأن الحياة ليست عادلة. ليتفهم أن واقعه الجامد والقاسي يلزمه على الأقل أن يخفي ذاته البريئة، حتى لا يقع بين من يريده مثلا ليفهم دنياه حق الفهم “يتخذه تسلية يعني”.
ولأنه كان مدركا وفاهما لطبيعة بيئته، فإنه بنفس القدر يفهم ذاته جيدا. ليعرف أنه بسبب طبيعة جسمه وخاصة يديه الموصوفة بيد عذراء، لا يستطيع مهما بلغ من جرأة عقد مواجهة مباشرة مع عقباته. فيطوع بذكاء صراعه كما طوع قانون نيوتن الثالث “لكل فعل رد فعل مساوٍ في المقدار ومضاد في الاتجاه” ليصير “لكل فعل رد فعل مساوٍ في الاتجاه”. أي يسحب نفسه من إعلانه أنه طرفا لأي صراع. ويصير بحركاته وخفته ظلا لا يعرفه أحد أو على أشد الأحوال ينسوه سريعا. والثابت-بحسب قول المعلم شكري القصاص- أنه لا يملك شيئا فلا تخشى شيئا. فيتقبله البعض بعد روية وتفكير، مستغلين مرونته -ومرونة آخرين مثله- مثل الديكة تماما حرة تجابه بلا تفكير، وغطاء لا بأس به متجهة في صراعات أكبر منها.
ملاحظة: بتتابع الحبكة، ممكن أن نلاحظ تتطور تلك النظرية “كونه ظلا” وتدرجها من مجرد لعبة شوارع إلى مركزا ذا أهمية. لكن حين نقترب من نهايتها وكذلك نهاية رحلة بطل الرواية “حمادة أوريو ” نرى رؤية أشمل، تحاول أن تنصف تلك التجربة الضائعة “كما قال حمادة: حاسس اني أوريو وسط ساندوتشات كبدة” مضيفة إليها علامة مقدسة تترابط مع مستهل الرواية، فتعطيه قيمة تجعله لا ينسى تجربته، حين يقع مثل الباقون في حكايات تافهة هزلية حسبما يشير الراوي.
-المجتمع وعلاقاته الملتبسة “كوكتيل”
وعن ذكر فكرة التعلق بالقداسة، فقد أتت بملازمتها بطل الرواية من البداية “فكرة العودة من الموت” إلى نهايتها، مجمعة لعالم ذا مزيج ملتبس. ربما لأنه يجمع بين مادتين لهما علاقة لو بسيطة كالفكرة ونقيضها، أو لكونه يضع علاقات بين صور مختلفة بالكلية عن بعضها البعض. تساهم الأمور الإيمانية المقدسة -القضاء والقدر- والتعلق بها في تثبيتها على حالها، والقبول بها، وإقناع ذوات الشخصيات بها، بخلق اختيار بديل -يشترط أن يكون سيئا أو مستحيلا- تجعل النفس ترضى وتظن أن لها طبيعة الاختيار، فتختار بسهولة قدرها كما تنزع القشرة من لب “الترمس” فكان مقبولا وجود شخصية “أسماء” بصورتها الشعبية مقترنة بوجود زوجها العالم بالطاقة الذرية، وكذلك وجود حمادة أوريو بشقاوته مقترنا بوجود أسماء بطيبتها المعروفة، لتصل إلى وصف اضطراب الأم “الحاجة هدى” من دعائها على ابنها الضال إلى دعائها له.
يتطور ذلك التعلق أحيانا، من الاكتفاء بالتشبع بالرضا إلى محاولات السعي إلى الإقتناع وتفسير المشهد على حسب وجهات النظر، لنكتشف بنهاية الرواية ومن خلال شخصية “محمد أبو رِق” الصديق المقلد لأوريو بإتقان، تنافسا في نقطة ذروة الصراع “مشهد قتل أوريو” بين روايتين إحداهما شعبية صرفة نتيجة اختلاط العقائد نسبيا في تلك البيئة، فتجعل من أوريو-بحسب العقيدة المسيحية- مسيحا يصلب ساعيا للخلاص ثم يقوم مبعوثا من الموت بمسحة كرامة ولي من أولياء الله، والأخرى وهي الاقرب للواقع، تبناها الراوي بأن أبو رق تقدم فاديا أوريو ليموت بدلا منه. فتقترب من وجهة نظري من الآية الكريمة-بحسب العقيدة الإسلامية- ” ولكن شُبه لهم”. ورغم ذلك، فإن ذاك الروايتان المتنافسان، تتلاقى في مبدأ واحد وهو الحاجة للخلاص من الآثام ونزعها، شيء أشبه بولادة جديدة، يعيد فيها المرء ذاته الضالة، حتى ولو باختلاق معجزة.
ـــــــــــــــ
الرواية صادرة مؤخرًا عن دار المرايا