هذه واحدة من الروايات التي قد يُخيفك حجمها، ولكنك بمُجرد ما تبدأ فيها تنسى كُل خوفك، وكُل حياتك، لتعيش مع هذه الحرائق الصغيرة.
رُبما من المُمكن أن تشعر أن هذه الرواية نسائية بعض الشيء، عن الأمومة وأبرز الشخصيات الرئيسية هم نساء.. ولكن صدقني يجب على كل قارئ وقارئة أن يقرأوا هذه الرواية. دعك من المُقدمات ولندخل في صُلب الموضوع.
"اسم هذه الطفلة (ماي لينج). أرجوكم خذوا هذه الطفلة وامنحوها حياة أفضل."
في تلك المدينة المُسماة "شايكر" نعيش مع قصة عن الأمومة والعُنصرية والمشاعر المُختلطة.. وما زاد هذه التوليفة جمالاً ذلك الجانب النفسي المُغلف لكل شخصية.
في هذه المدينة كُل شيء لامع وبراق.. كل شيء جيد.. كل شيء جميل.. كل شيء هادئ.. ذلك المظهر الذي ستراه من الخارج.. أما في الداخل فستجد حرائق صغيرة في كُل مكان.
حكايتنا تبدأ مع "ميا" التي تنتقل مع طفلتها "بيرل" إلى مدينة "شايكر" لتحاول العثور على سكن يأويها بعد الكثير من الترحال.. لتتلاقي حياتها بحياة "إيلينا ريتشاردسون".. ومن هُنا تبدأ الحرائق.
كانوا مُختلفتان في كُل شيء.. ميا تؤمن بالحرية.. وإيلينا تؤمن بالنظام.. وتحت ذلك يندرج العديد من السلوكيات التي يختلفا فيها إلا شيء واحد فقط.. وهو التضحية. وكُل تضحية كان لها سبب خاص لكلاً منهما.
فـ"ميا" تضحيتها للعثور على نفسها.. و"إيلينا" تضحيتها في إضاعة نفسها.. والظهور بذلك المظهر الشمعي.. الذي يوحي لك أن صاحبه سعيد، ولكنه عكس ذلك. تماماً.
"لكن سوف يكون هُناك حب أيضاً، الكثير من الحُب. مع وجود ذلك، يُمكنك تدبر أمرك بأقل القليل. كان الدخل كافياً للأساسيات: إيجار، طعام، ملابس. كيف تزن حب أم في مواجهة تكلفة تنشئة طفلة؟"
ونأتي لأجمل أجزاء الرواية.. إذا أحببت أن تقرأ عن الأمومة فعليك بهذه الرواية.. يا الله على كم المشاعر التي تضاربت والتي جعلت مشاعري تنتفض لهذا الشعور الذي لم أفهم كنهه من قبل.. فكيف لرجل أن يعرف كيف كانت الأمومة في غير أمه -رحمها الله-؟ هذه كانت رحلة في عالم الأمومة.. قبل قراءة هذه الرواية كانت لي وجهة نظر، وتغيرت تماماً بعد ذلك. الأم هي كُل شيء. فقط ستكون حياتنا أفضل بوجودها. بوجود هذا النبع الدائم من الحنان.. وأعذروني لأنني استشهد بمثل شعبي دارج ولكنه ملائم:
"إللي ملوش أم، حاله يُغم".
يا الله على هذا الصراع الدائر بين "بيبي تشاو" وصديقة "إيلينا".. لأول مرة أتردد في الوقوف بجانب صفاً ما.. هُناك مُميزات لكل جانب.. ف"صديقة إيلينا" تعرض الراحة والمال.. و"بيبي تشاو" تعرض الأمومة والحُب المشروط ولكن بحياة بسيطة.. وكالعادة جاءت النتيجة في مصلحة الأغنياء، مهما كان الفقراء على حق.
"يُزعجك الأمر، أليس كذلك؟ أعتقد أنك لا تستطيعين التخيل. لماذا يختار أي أحد حياة مُختلفة عن التي لديك. لم قد يُريد أي أحد شيئاً آخر غير منزل كبير بمرجة كبيرة، وسيارة فاخرة، ووظيفة في مكتب. لماذا سيختار أي أحد أي شيء مُختلف غير الذي اخترته."
"يُرعبك الأمر. أنك فوت فرصة ما. أنك تخليت عن شيء ما لم تعلمي أنك أردته."
ثم نأتي لذلك الجزء النفسي الذي ذكرته بالأعلى.. ذلك الجزء عندما كانت "ميا" بفنها الغريب والجميل.. صورت امرأة وكأنها عنكبوت.. وتلك الحوارات التالية عن رمزيات الصورة.. عن أننا لدينا أجزاء من أنفسنا نخاف أن ننظر إليها.. نخاف أن نواجه أنفسنا بوجودها من الأساس.. كُلنا بنا عيوب.. ولكن كُلنا نخاف الاعتراف بها.. ندفنها بعيداً.. نحاول ألا نظهرها.. ثم فجأة تجدها ظهرت كجثة كانت غارقة في البحر وطفت!
هذه رواية سأظل أتذكرها كثيراً، رُبما طوال حياتي.. رُبما سأعود لقراءتها مرة أخرى وبكل تأكيد سأقرأ رواية "سيليسيت إنج" السابقة والقادمة بإذن الله.. فعبر رواية واحدة فقط.. أصبحت من كُتابي المُفضلين للأبد.. هُناك كتاب مهما كتبوا لن يصبحوا ذو شأن.. ولكن "إنج" ولو كتبت هذه الرواية فقط.. لكفتني.
وعن المُسلسل المُقتبس:
كالعادة تصيبني خيبة أمل بعد مُشاهدة أي عمل مُقتبس من رواية سواء كان فيلماً أو مُسلسلاً.. وفي حالتنا هنا مُسلسل بطولة "ريس ويذرسبون" و"كيري واشنطون" والفتاة الجميلة "ميجان ستوت" وذكرتهم وحدهم لأنهم أفضل المُمثلين رغم حُبي الشديد لـ"جوشوا جاسكون" من أيام مُسلسل "فرينج: هامشي" ولكن دوره كان بسيط وصغير ولم يسمح بوجود أي تحديات ولكن مشكلتي الأكبر كانت مع القصة والعديد من التغييرات التي طرأت عليها.. بالطبع العنصرية تجاه ذو البشرة السمراء موجودة في الرواية ولكن تم توضيحه علناً في المُسلسل بعدما قام بتأدية شخصيات "ميا" وابنتها "بيرل" مُمثلين ذو بشرة سوداء.. وذلك كان جزء جيد.. فالعُنصرية ورغم إنكار الأمريكان لها.. ولكنها موجودة في كُل شبر داخل أمريكا.. أصحاب البشرة البيضاء مهما دافعوا عنك فهم يروك أقل منهم شأناً.. ولكن..
جعل "ميا" شاذة جنسياً، وكذلك "إيزي ريتشاردسون"؟ ناهيك من أن الدوافع أصبحت تُطوع لخدمة ميولهم، ولكن لو كُنت تركتهم كما كانوا في الرواية.. بكل تأكيد ستكون أفضل.. لو حاولت أن تقنع الناس بقضيتك مراراً وتكراراً بحشرها في كُل فرصة مُناسبة أو حتى غير مُناسبة لن نقتنع صدقني.. فما بُني على باطل فهو باطل.. الذي يشعر أن موقفه ضعيف فقط.. هو من يبدأ بالصراخ.. ويبدأ بالكلام.. وأنتم تصرخون في وجوهنا كُل يوم وكُل ساعة.. نحن شواذ.. نحن لنا حقوق.. أهلاً وسهلاً يا سيدي .. مع السلامة!
ولكن أكثر ما ضايقني كانت التغييرات الكبيرة في القصة وقرارات الشخصيات فجعل بعض الشخصيات لا تُطاق وقرارتها غير منطقية أساساً ومنهم "بيرل" التي كدت أن أكسر شاشة هاتفي من غيظي من مدى تفكيرها السطحي.. على عكس الرواية..
كُل شيء كان مُرتب، منطقي، جميل.. وبمُجرد دخول الميول الجنسية الشاذة.. أرأيت؟
أطفئوا الحرائق التي في رأسكم أولاً.
ختاماً.. وعذراً على الإطالة..
هذه الرواية يُنصح بها جداً.. أما المُسلسل.. فشاهده أيضاً.. ستدهشك بعض الأداءات التمثيلية.