انا لست شيئا ، أما انتِ فأنتِ قد تألمتِ !!
هذه العبارة التي يخاطب بها بطل قصتنا الامير ميشكين معبودته ناستاسيا فيلبوفونا هي ما دفعني لقراءة هذه الرواية تحديدا وكان قد أشار اليها ميلان كونديرا في روايته الخلود ووقع نظري عليها اثناء قرائتي لها .
اقول ان العبارة عجلت من عودتي الى اعمال دوستويفسكي حيث جرت العادة ان افصل بين كل قراءة وأخرى له بمدة ستة أشهر وذلك لاعتبارات عدة منها طول رواياته وعدم رغبتي بالانتهاء منها جميعا - ارغب دائما بان يكون هناك المزيد من دوستويفسكي - وكانت آخر قراءه له (الزوج الابدي ) لم يمضي علىيها سوى شهرين .
دعك من طريقة اختياري لما اقرأ وتأمل في العبارة المفتاح التي من خلالها يمكنك الولوج الى اعماق هذه الرائعة الأدبية بل قل هذه الملحمة الروائية !!
اتجد ان فيما اقول شئ من الغلو و المبالغة ؟ فليكن غلوا ومبالغة في نظرك وليكن لا يوفي قدر الرواية في نظري ولتنتهي المسأله عند ذلك .
العبارة المفتاح لأنها تعيدنا الى الألم مرة أخرى بوصفه مميزا لأصالة النفس الانسانية واحد مقومات هذه الاصالة والتي يهتم بها الروائيين لرغبتهم بابراز السمات المميزة للفرد او الشخصية فنرى تركيزا عجيبا على سبيل المثال على الوجوه لدى دوستويفسكي بوصفها وما تعبر عنه احدى البصمات الفريدة لكل شخصية او فرد .
الانسيابية كانت المميز الرئيس لبداية الأحداث والتي يضع لها الكاتب اطار زمني عبر عبارته المكررة في اكثر من موضع "في اليوم الذي تبدأ في صباحه قصتنا " فالمرء يستطيع قراءة كل تلك الصفحات في جلسة واحدة لفرط انسيابية الاحداث .
الميزة الحاضرة بشكل دائم عند الحديث عن دوستويفسكي والمتمثلة بقدرته على سبر اعماق النفس الانسانية تفقد بريقها لدى الحديث عن هذا العمل فانه يتخطى هذه المقدرة الى ابعاد اعمق .
لدى كاتبنا قدرة مدهشة على النفاذ السيكولوجي العميق الى النفس الانسانية وصراعاتها وهذا ما يجسده في شخصياته الروائية لدرجة ان نشعر في بعض الاحيان بانه قد نفذ الى اعماق يفقد عندها القدرة على التحليل وهذا ما يعترف به الكاتب صراحة في هذه الرواية .
ملفته جدا تصنيفات دوستويفسكي للنماذج الانسانية وما استرعى انتباهي تصنيفه للاشخاص العاديين وذلك الحديث عن اشخاص عاديين عاديين واشخاص عاديين يتمتعون بالذكاء واطلاقه تلك التوصيفات الواقعية لابعد الحدود عن سعادة الفئة الاولى وتعاسة الفئة الثانية وعن اسباب سعادة وتعاسة كل فئة .
مقالة كيلر و رسائل نستاسيا الى اجاليا وخطاب انتحار هيليوت دلائل على نبوغ و موهبة روائية عظيمة فالسخرية من المقالة الاسبوعية الساخرة في احدى المجلات الروسية عن طريق مقالة كيلر (كما اشار احد الهوامش لتي تعد اضافة مفيدة جدا ) هي سخرية لا يتمكن منها هذا التمكن الا كاتب عظيم وهذا ما ينطيق ايضا على الرسائل التي تعد لفرط غرابتها تعبر تعبيرا دقيقا عن شخصية ناستاسيا العجيبة اما خطاب هيليوت فيبين عن مقدرة النفاذ السيكولوجي التي ذكرناها سابقا عند كاتبنا ومقدرته الكبيرة على كتابة خطاب لرجل يحتضر بكل ما يجول نفسه من مشاعر وعواطف مرتبكة .
بالعودة الى البطل الأمير ميشكين فقد اختار دوستويفسكي النموذج الاسهل فبطلنا أبله فأية بساطة في التحليل والنفاذ اكثر من ذلك ؟؟ ولكن تبين ان هذه البساطة انما كانت مدخلا لتعقيدات لا متناهية للنفس الانسانية فذلك الأبله البسيط ادخلنا في دوامة عند مصاحبتنا للكاتب خلال نفاذه السيكولوجي العميق الى نفسيته .
" لقد كان فيك منذ البداية شئ من كذب ، ومن كان الكذب بدايته فلا بد أن يكون الكذب نهايته ، ذلك قانون من قوانين الطبيعة . انني لا أرى رأي أولئك الذين يعدونك أبله ، حتى انني أستاء حين أسمع كلامهم . انك أذكى من أن توصف بهذه الصفة . ولكن لا بد أنك تسلم انت نفسك بأن فيك غرابة تميزك عن الناس كافة . لقد خلصت انا الى هذه النتيجة : أن سبب كل ما جرى يكمن قبل كل شئ فيما أسميه " اللاخبرة الفطرية " وفيما تتصف به من سذاجة شاذة غير سوية . واني لأضيف الى ذلك أنك يعوزك حس الاعتدال عوزا خارقا . وينبغي أن نذكر اخيرا ذلك السيل المتدفق من المعاني المجردة المكتسبة التي يمتلئ بها دماغك والتي حسبتها باخلاصك وبرائتك آراء اصيلة حقيقية صادقة طبيعة مباشرة !"
اذن تجد نفسك في النهاية وبعد كل هذه المغامرات العاطفية والاجتماعية لبطل قصتنا امام دائرة تنتهي من حيث تبدا لتجيب اجابة مباشرة على السؤال المعلق منذ البداية هل كان اميرنا ابله ؟؟!!
والجواب جاء بطريقة رائعة تتوافق مع روعة الأثر الأدبي الخالد ........
ما الذي اريد ان اقوله بعد هذا كله ؟؟
آه ، ما أغرب قلب الانسان !!