لغة عميقة
وأسلوب رائع يأخذ القاريء لما وراء الكلمات
ماذا كان رأي القرّاء برواية موسم الهجرة إلى الشمال؟ اقرأ مراجعات الرواية أو أضف مراجعتك الخاصة.
جلال أمين شكر فيه قوى لذلك سأقراه ولنرى :-)
الكتاب الثالث عشر 2024
موسم الهجرة الى الشمال
الطيب صالح
"إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة.أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر.ثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء"
"الجميع مثلنا تماما , يولدون و يموتون و في الرحلة من المهد الى اللحد يحلمون احلاما بعضها يصدق و بعضها يخيب . يخافون من المجهول و ينشدون الحب و يبحثون عن الطمأنينة في الزوج و الولد . فيهم اقوياء و بينهم مستضعفون , بعضهم اعطته الحياة اكثر مما يستحق وبعضهم حرمته الحياة لكن الفروق تضيق و اغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء"
• هذه المرة مع الادب السوداني والطيب صالح او " عبقري الرواية العربية " كما يسمى من قبل النقاد ومؤلف عرس الزين وهذا الكتاب " موسم الهجرة الى الشمال بعدد صفخات 270 صفحة واصدار 2004 وقد نشر الكاتب الرواية في ستينات القرن الماضي في بيروت وحازت على عدة جوائز وتم الاعتراف بها على انه افضل رواية في القرن العشرين .
• الوطن والهوية : ماهو الوطن وما هي الهوية ؟ هل الوطن ان يحدث كل ما حدث : او هو ان لا يحدث كما قال غسان كنفاني مخاطبا صفية . لكن غسان لم يعرف ان ما حدث ابشع مما كتب فما هو الوطن واين الامان في الوطن ، تلك هي الرموز التي بنيت عليها الرواية فالكاتب هنا يبحث عن الوطن والحضارة ذلك الوطن الذي خرج من الاستعمار في تلك الفترة ليدخل استعمارا جديدا استمر لتاريخ كتابة هذه المراجعة 23/02/2024 اين الوطن في ظل الحرب الشنيعة حيث يفتك دراكولا باهالي غزة ويعيث فيهم قتلا وتدميرا ، غزة المدينة الرائعة اتي دمرتها الحرب .
• رواية الهجرة والنزوح واللاجئيين وحياة الكسر والهوان من اجل حياة افضل والحنة الموعودة خرج الشباب في رحلة نزوح طوعي من الظاهر لكنه قصري من الداخل لكي تعيش هاجر ، ربما يطبق هذا القول الا في غزة لاجبار الناس على الخروج ، لقد كتبت الرواية والسودان يصبح حرا من القيود الاستعمارية لكنه بلد فقير بسبب السياسات الفاسدة لذلك توجد موجة مهمة من اللاجئين والمهاجرين العرب في أوروبا، وموقف الدول الأوروبية من ذلك مع صعود تيار اليمين فيها.
• سارت الرواية ضمن ثلاث محاور اساسية او ثلاث اجيال الجد والابن والحفيد وقد مثلت كل فئة مرحلة عمرية وثقافية معينة الاستعمار وبعد رحيله وصولا الى مصطفى سعيد؛ الشخصية الرئيسية والأكثر إثارة للتأمل، طفل يتيم الأب يعيش هو وأمه وحيديْن، ويقرر الالتحاق بالمدرسة والتعليم النظامي الحديث، ليُظهر هناك تفوقاً ونبوغاً ملفتين للنظر، يرى فيه المعلمون معجزة، إذ يقول له ناظر المدرسة: "هذه البلد لا تتسع لذهنك". ثم سهل عليه الدراسة في القاهرة ولم يبلغ الثانية عشر بعد، ومن هناك وبمساعدة عائلة مستشرق إنجليزي يكمل رحلته للدراسة في لندن، حيث ، تحوّل مصطفى سعيد إلى أسطورة يحكي عنها كثيرون، درس الثقافة الغربية حتى شعر بأنه امتلكها، مستوعباً كل تفاصيلها ومركّباتها الثقافية في المسرح والموسيقى والاقتصاد؛ عرف الحانات والمقاهي والمسارح والأندية، وأجاد اللغة الإنجليزية كما يتكلمها أبناؤها، وكتب العديد من الكتب. استطاع هضم الثقافة الغربية لكنّ شيئاً ما في قرارة نفسه كان ينحيه عن الاندماج الكامل معها وعن تخطيها، ليُمثل بذلك جيل الوسط في الرواية، الجيل الذي خاض تجربة الاستعمار وتشربها حتى النخاع، ومن خلال شخصيات الرواية وكيفية تمثلها لعالمها تفتح الرواية أسئلة متعددة، وأبعاداً متنوعة وزوايا وتفاصيل مثيرة، كلها تغري بالدراسة
• الرواية رمزية فى مجملها وهذا يعد اجمل مافيها ، فكل شخصية تمثل رمزا او ربما عدة رموز مصطفى سعيد الاقتصادى يمثل المال العربى الذى يستثمر فى الخارج ليزيد الحضارة التى تحتقره قوة "والراوى يمثل العقول العربية الخلاقة التى تلفظها بلادها الى الغرب لتنيره بعلمها كى يستعبدها حسنة زوجة مصطفى سعيد التى سلمت لعجوز كى يتزوجها ربما تمثل تلك الاوطان التى سلمت لعجائز فاسدين كى ينهبوها حتى يكون مصيرها الفناء كحسنة. .
• كل هذه الرموز يوضح من خلالها الطيب صالح ان الغرب يحتقرنا ويستغلنا ليس لأنه يريد ذلك وانما نحن من نجبره على هذا حين نهدى اليه ثرواتنا وعقولنا ونهوى باوطاننا الى القاع . ليكون الحل الوحيد لاستعادة مجدنا هو تنشئة الاجيال المستقبلية لفعل ما عجزنا نحن عن فعله او ما تكاسلنا عن فعله وهذا نا يرمز اليه الطيب صالح بولدى مصطفى سعيد وحماريه الذين عهد برعايتهم الى الراوى الذى يمثل العقل والعلم ، فاما يلتزم بالعهد ولا يضيعهما مثلما أضاع حسنة التى تمثل ضياع الوطن ، فيعلمهما ليظلا منتميان الى الانسانية كما عهد بهما والدهما اليه واما أن يضيعهما كما ترك حسنة أو الوطن للموت فيصبحا هذين الحمارين.
• بدء سؤال الانتماء والهوية مع مصطفى الذي عاش فترة الاستعمار وبعده وشهد نهبه لثروات بلاده، ومع احتفاظه بأمله في أن ينتصر لذاته، صارت صورة الذات التي تمثلها مصطفى سعيد بوعي هي صورة الشرق المستعمَر المهزوم ما قبل الحداثي، متمثلاً في حالة الرجولة البدائية الجنسانية الشهوانية واللا عقلانية، هذا الشرق الذي تعرض للاستعمار من قبل الغرب المستنزف لثرواته المستغل لها والمحتكر لقدرات هذا الشرق. أما الآخر: فهو الغرب الأوروبي بحضارته الغربية الصناعية وتقاليده الأرستقراطية الذي يتجسد في جانب منه في المرأة الأرستقراطية الأوروبية (شخصية جين مورس). وهكذا تمثلت العلاقة بين الشرق والغرب في علاقة صراعية بين رجل بدائي وامرأة أرسقراطية
• "وفي لندن أدخلتها بيتي، وكر الأكاذيب الفادحة، التي بنيتها عن عمد، أكذوبة أكذوبة. الصندل والند وريش النعام وتماثيل العاج والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخل على شُطآن النيل، وقوارب على صفحة الماء أشرعتها كأجنحة الحمام "فهي صورة المتخيلة التي تمثلها مصطفى سعيد عن الذات، ليست حقيقية كما تخبرنا الرواية على لسانه بأنه ينظر لنفسه أنه مجرد أكذوبة "
• هنا مصطفى اكذوبة او مجتمع مستعمر وان اصبح حرا فهو شخص غير منتمي للوطن ولا يهمه باي شكل ، بدا واضحاً ذلك في تصويره لعلاقته بأمه "مخلوقان سارا شطراً من الحياة معاً، ثم سلك كل منهما سبيله". كانت إجابة مصطفى سعيد لسؤال الهوية – وهي إجابة مصطنعة بشكل واعي – هي من إفراز العملية الاستعمارية نفسها؛ عبارة عن هوية وصورة متخيلة وبدون أصل تاريخي عن الشرق، لا وجود لها إلا في ذهن الاستعمار، فقط حتى لو استخدمها للانتقام من النظام الذي ساهم في إنتاجه كذات قلقة كما يظهر في الرواية فهو يحس بجذوره دائماً ويحن إليها، هذه هي أرضه ومنها يكتسب هويته "تمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تُقام البيوت. أسمع طائراً يغرد، أو كلباً ينبح، أو صوت فأس في الحطب، أحس بالاستقرار، أحس أنني مهم، وأنني مستمر ومُتكامل". وكذا في استمرار علاقته بالتاريخ كمصدر للذاكرة والإحساس بالأمن "أذهب إلى جدي فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً بل خمسين عاماً، لا بل ثمانين، فيقوى إحساسي بالأمن".
• نظر الراوي إلى الاستعمار كجزء من التاريخ وجزء من الذاكرة التاريخية التي شكلت وعي المجتمع السوداني بعد الاستعمار "لم يكن مجيئهم مأساة كما نصور نحن، ولا نعمة كما يصورون هم، كان عملاً ميلودرامياً سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة". فالاستعمار قد حدث وانتهى ولم يَعُد ممكناً العودة بالزمن إلى الوراء ولا الحديث عن هوية أصيلة نقية متمايزة عن الاستعمار وحوادث التاريخ "كونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا، إنهم سيخرجون من ديارنا إن عاجلاً أم أجلاً، سكك الحديد والبواخر والمصانع والمستشفيات والمدارس ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل، سنكون كما نحن قوماً عاديين، وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا"). لا يحمل الرواي هنا أي مشاعر عداء لأحد، من وجهة نظره فالدراما التي خلقها الاستعمار لا تحرض على الحرب، ولكن فقط تبعث على الحزن.
• مصطفى سعيد أدرك ذلك، رغم محاولته، عبثاً، أن يقاومه. وحدها جين مورس من وضعت حداً لجموح مصطفى الجنسي وتلذذه بالانتقام من الآخر الغربلقد حلّ مكان مجتمعات ما بعد الاستعمار مجتمعات أخرى. شرقية أم غربية؟ كلاهما، أو بالأحرى لا شيء منهما، فليس ثمة غرب أو شرق بعد الاستعمار، في الرواية اختفى مصطفى سعيد، لكن الأرستقراطية الأوروبية جين مورس ماتت أيضاً، وهي النتيجة الحتمية لعالمنا الجديد الذي نعيشه منذ قرن ونصف تقريباً، عالم بلا هويّات.
غرفة نومي صارت ساحة حرب. فراشي كان قطعة من الجحيم. أمسكها فكأنني أمسك سحابا. كأنني أضاجع شهابا. كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي. و تفتأ تلك الابتسامة المريرة على فمها. أقضي الليل ساهرا. أخوض المعرفة بالقوس و السيف و الرمح و النشاب. و في الصباح أرى الابتسامة ما فتئت على حالها. فأعلم أنني خسرت الحرب مرة أخرى. كأنني شهريار رقيق تشتريه في السوق بدينار صادف شهرزاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون.
من أنت أيها المصطفى السعيد. بينما كانت غرفة نومك هي نفسك التي تمور بين جنبيك. كان بيتك هو السودان بذاته.
أدخلتها بيتي. وكر الأكاذيب الفادحة. التي بنيتها عن عمد. أكذوبة أكذوبة. الصندل و الند و ريش النعام و تماثيل العاج و الأبنوس و الصور و الرسوم لغابات النخل على شطآن النيل. و قوارب على صفحة الماء أشرعتها كأجنحة الحمام. و شموس تغرب على جبال البحر الأحمر. و قوافل من الجمال تخب السير على كثبان الرمل على حدود اليمن. أشجار التبلدي في كردفان. و فتيات عاريات من قبائل الزاندي و النوير و الشلك. حقول الموز و البن في خط الاستواء. و المعابد القديمة في منطقة النوبة. الكتب العربية المزخرفة لأغلفة مكتوبة بالخط الكوفي المنمق. السجاجيد العجمية و الستائر الوردية. و المرايا الكبيرة على الجدران. و الأضواء الملونة في الأركان.
المبدع جورج طرابيشي في كتابه شرق وغرب: رجولة وأنوثة: دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية يسمي هذه الرواية اسم أخر هو: الجغرافية التي قلبت معادلة التاريخ.
حيث يقول طرابيشي
ان موسم الهجرة إلى الشمال هي قصة هذا النهر. قصة هذا التيار الجارف الذي يحمل منذ هلّ القرن العشرون أفواجا تلو أفواج من بشر الجنوب إلى بلاد الشمال في رحلة جبرية محكومة بقوانين حديدية كنواميس الطبيعة. لأن الشمال منذ هل العصر الحديث لم يعد جهة كغيره من الجهات الأربع. بل أمسى المصب للأنهر جميعا و نقطة المركز لدوائر العالم قاطبة.
يعطي طرابيشي أبعاد أخرى لفهم شخصية مصطفى سعيد من حيث أنه ولد في سنة اجتياح كتشنر للسودان و كذلك شخصيته القلقة المركبة من الحقد و الحب و التي تبدو متناقضة ان نظرنا إليها بعين واحدة و أخيرا طريقة مصطفى الملتوية التي يعبر بها عن نفسه و يقول طرابيشي في موضع أخر:
يروي لنا صالح قصة مصطفى سعيد كرمز لا كشخص. قصته من حيث أنه رأى النور مع الفتح الاستعماري. و من حيث أنه كان أول سوداني يرسل في بعثة إلى الخارج. بل أول سوداني تزوج أوروبية اطلاق.
و هو هنا يقصد أن الإشارة إلى نبوغ مصطفى سعيد في التعليم و تعلمه الكتابة في اسبوعين و التعليم الأساسي كله في سنتين ليست معجزة و لا مبالغة بقدر ما ترمز لوجوب قطع الدول التي تم استعمارها في سنين الطريق الطويل نفسه الذي قطعته الدول الغازية في قرون.
الحقيقة أن تحليل طرابيش للرواية مميز كالعادة و جدير بالإقتباس كله لولا أن المجال لا يتسع لذلك.
كيف بالله عليكم تقارنون بين رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" ل "الطيب صالح" التي صدرت في عام 1966 وبين رواية "شوق الدرويش" ل "حمور زيادة" التي صدرت في العام 2014؟! كم هي ظالمة تلك المقارنة بين رواية قصيرة كُتِبَتْ قبل عصر التلفاز والإنترنت وكل هذا الزخم الثقافي وثورة تكنولوجيا المعلومات والإتصالات، وبين رواية معاصرة لكل التيارات الفكرية والثقافية والمعلوماتية بحيث أن التحدي صار أسهل أمام صاحبها في الاستعانة بكل هذا الموروث الأدبي العربي والعالمي في تقنيات السرد الروائي الذي انفتحت أبوابه على اتساعها بازدهار حركة الترجمة من الآداب العالمية على غناها ووفرتها.
ورغم ذلك، كانت "موسم الهجرة إلى الشمال" هي الرواية المذهلة التي لم أكن لأتصور مدى حداثتها وروعتها وريادتها في الأدب العربي لكل هذه التقنيات السردية التي نقرأها الآن، وكأنها نُشِرَتْ في الألفية الجديدة، لا في منتصف القرن الماضي!
فليحذر من يقرأ هذه الرواية من سطوتها، وليحذر من يستهن بصفحاتها الخمسين بعد المائة، وليحذر من يظن أنه مقبل على رواية هينة سهلة المنال.
هذه الرواية القصيرة ليست لمن يقرأها مرة واحدة، وليست لمن يقرأها في مرحلة المراهقة وبدايات الشباب، وإني لأرثى لجيل الإنترنت والهواتف الذكية من أن الكثير من لذة ومتعة هذه الرواية سيفتقدونه، لأن التوحد مع أبطال الرواية في معيشتهم ووصف بيئاتهم وحياتهم التي تخلو من أي وسائل اتصال تكنولوجية أو رفاهية معيشية لن يكون من السهل تصوره على الأجيال الحالية من مواليد الألفية الثانية.
كما أن موضوع الرواية خَدَّاع، فهو متعدد الطبقات كالبصلة، كلما تكشفت لك قشرة، كان ورائها المزيد والمزيد من القشور. لقد تكاملت جوانب هذه الرواية إلى الحد الذي جعلني أصفق لبراعة الكاتب في تصوير الكثير من المشاهد، وكأنها شريط سينيمائي يُعْرَض أمامي فأراه رؤيا العين، وأورثني الصراع النفسي الذي عاناه بطل الرواية أمام سطوة أسطورة "مصطفى سعيد" الهواجس والرؤى في صحوي ومنامي، فكنت أنام وأصحو وكأن بي حمى أو هذيان، أحاول فك غموض الأسرار التي أحاطت بتلك الشخصية الرهيبة التي ما قابلت مثلها بين أبطال الروايات التي قرأتها طوال حياتي.
هذه رواية أقول عنها بصدق أنها تحتاج إلى قراءة ثانية وثالثة، وقليلة بالفعل هي الروايات التي مرت علىَّ فشعرت أني أحتاج إلى إعادة لقرائتها.
"إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر، ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تُقطف، كتب كثيرة تُقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء.."
قبل أن أقرأ رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني "الطيب صالح"، التي نُشرت لأول مرة بعام 1966، كنت أظن أني سأقرأ رواية ذات لغة عتيقة، ذات سرد بطيء ويأخذ الطبع الكلاسيكي، الهادئ، وإن كان ذلك الطبع موجود بالفعل، ولكن الأحداث والأفكار والشخصيات كانوا لامعين وبراقين، وعلى الرغم أن الرواية 150 صفحة، ولكنها تحمل تنوعات عديدة على مستوى الرمزيات والأفكار، والشخصيات، أنت ستقرأ هذه الرواية، وتخرج منها ولن تنسى "مصطفى سعيد" أبداً، الكاتب حرص على ذلك وليس فقط من تكرار اسمه عشرات المرات، ولكن لأنها شخصية جذابة، بخلفية مآسأوية، ودعني أقول وبحياة أيضاً بائسة، بتقلباتها المُختلفة.
قد يرى البعض إنها رواية عن شخص ينتقم جنسياً من نساء مُحتليه، وقد يرى البعض إنها محاولة للانسلاخ من منشأك، وأن تنبت في أرض أخرى، قد تكون رواية رمزية، ولكني وجدتها كُل ذلك، هذا من جمال الرواية، إنني لا أعتقد أن الجميع سيراها من نفس المنظور، بتقلباتها المجنونة، وفي نفس الوقت، لا أنكر أن فصل السمر مع العواجيز والكهول قد أضحكني وجعلني أتمنى أن أكون وسطهم، وأن الفصل السابع السريالي والعبثي من أجمل فصول الرواية، وبكل تأكيد أن النهاية لم تُجيب على كل أسئلة الرواية. وستضعك في حيرة عن أغلب أحداث الرواية، وماذا يُريد الكاتب قوله أو إيصاله!
هي رواية مُهمة بكل تأكيد، ولكنها ليست من الأهم، هي رواية يجب أن تُقرأ، لتتعرف على كاتب يسرد كالماء، بغزارة وبسهولة ويسر، وأحياناً يهيج، وأحياناً يهدأ، وأحياناً يُغرقك، أنت وشخصيات رواياته.
بكل تأكيد انهيت الرواية ووجدت نفسي أريد أن أقرأ للطيب صالح مرة أخرى، هو كاتب بارع بلا شك، وهذه الرواية يُنصح بها، ولكن دع سقف توقعاتك مُتساوياً مع رأسك، وليس أكثر من ذلك.
حيرتني الروايه من هو بطلها الحقيقي؟؟ هل هو مصطفي سعيد أم الراوي!؟ هل كان السودان الشقيق و نهر النيل المتدفق في أنحائه!؟
تداخلت الأحداث و الأماكن في كثير من جوانب الروايه ، هنا لسان الراوي و حياته و عودته من غربته ببلاد الانجليز ثم يظهر مصطفي سعيد بحكاياته و مغامراته في إنجلترا في أزمان إحتلالها ل مصر و السودان ، و كثيرا ما تتداخل الحكايات بين الإثنين..الراوي و مصطفي سعيد فلا تدري أيهما كانت هذه حكايته!!
هل كانا إنعكاس كل منهما للآخر و للسودان وقتها المتطلع ل حداثة الغرب و الشمال حيث ارتحل بعض أبناؤه! و هل كان الانغماس في العلاقات النسائيه إنتقاما من المستعمر ؟! أم تعبيرا عن متعة زائله ينالها أهل المستعمرات في ظلال الأسر و الإحتلال حتي تفيق من أسرك بعد علاقة تذيقك ذل الرغبة و الحاجه بعد تقديم التنازلات واحده تلو الأخري.
قرية الراوي الوادعه و الراقده في أحضان النيل مثلت لي السودان بأهله و ناسه ، كبار متنفذين يأتمر الناس بهم و يرجعوا إليهم ، عوام الناس يعيشون الحياه و تحركهم الأحداث في حقولهم و وظائفهم و زيجاتهم، و أيضا مفتونوا الشمال العائدين الي جذورهم لمحاولة التغيير و التحرير بعد النشأه في أحضان المستعمر و مثلهم مصطفي سعيد، أو حتي لاستمرار دورة الحياه كما مثلها الراوي.
أمانة الاستخلاف من مصطفي إلي رواينا شبه المجهول كانت في رأيي ليفهم علاقة الشمال مع الجنوب و يحاول أن يرعي الجنوب ممثلا في الأرمله الحسناء و الأبناء ، و حتي عند قهر قد يقع علي الجنوب من بني جلدتهم يكون الإنتقام الذي يحرك الجميع و يدق ناقوس الفهم و النجاة قبل الغرق.
من الروايات التي تحيرت عند تقييمها و مراجعتها، حيث جذبتني بدايتها و إختلطت الأمور علي في منتصفها ، ثم كان أن إرتأيت رسالة ما في نهايتها بصورة قد تبدو مشوشه قليلا أو مهتزه.
علي كل حال هي تجربه زادت عندي من إرتباط مصر و السودان حيث لم أدرك أن الأحداث بالسودان و ليست النوبه بجنوب مصر إلا عندما إرتحل الراوي من قريته ليعمل في الخرطوم!!