عالم من الغموض : روحي فيك
في حضرة الأدب الذي يجمع بين شغف السرد وروعة التعبير، وسلامة البناء ودقة التصوير، تبرز رواية "روحي فيك" لأحمد عثمان كعمل أدبي يتميز بجرأة الابتكار وغموض الحبكة.
ــ حين تتعانق كل المتضادات معًا، مشكلةً نسيجًا صلبًا كخيوط العنكبوت في ظاهرها، ولكن باطنها أقوى مما تتخيل. تتفرع الطرائق، وتتنوع الدقائق، وتُبسط المساحات، وتُفتح النهايات، ليأتي هذا الكاتب العبقري بخيط رفيع جدًا يخيط كل ذلك بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والكذب، بين الرعب والغموض، بين الحب والكره، بين السلام والخوف، بين الموت والحياة، بين الرغبة والشغف؛ خيط رفيع جدًا لا يراه إلا من تعمّق في مثل هذه المعاني كلها.
ــ استطاع الكاتب بمهارة تنزيل ذلك على الأوراق في مهمة جديرة بالاحترام، حيث يحاول تحويل ما كان يُعرف في الدراما التلفزيونية إلى تجربة سردية أدبية متكاملة.
ــ متاهة بين الواقع والخيال
يبدأ العمل بفرضية تجمع بين الرومانسية والتشويق والرعب النفسي، إذ يتأرجح القارئ بين عالمين متداخلين؛ أحدهما يمثل الحياة اليومية البسيطة، والآخر يعج بالغموض والظواهر الخارقة، بين الماضي والحاضر، ارتباطات وأسرار وأغوار يسبرها، ليخرج من هذه المتاهة المتوسطة بسبب كل هذه الظواهر إلى ما يُرضي الشغف ويحقق المراد.
تنقل زمني ذكي: سريع، بسيط، قوي، مبهِر، مبدِع، شديد الغموض، من أولها إلى مُنتهاها، تسيطر عليك حالة من التهام الوريقات رغبةً في الوصول إلى النهاية، وفي ذات الآن لا تحب أن تنتهي من روعة السرد غير الخطي الذي قدّم فيه الكاتب براعة لا نظير لها، حين يخلق حالة من التشويق المستمر، حيث تتداخل الذكريات مع الحاضر، مما يُضفي على النص إحساسًا بالضياع والتردد بين الواقع والهلوسة.
تتجلى كذلك روعة الحبكة في هذا البناء الدرامي المشوق الذي يسلب عقل القارئ، فتتكشف له الحقائق تباعًا، وفي كل لحظة يجد ما يشد شغفه ويسلب عقله، مصورًا سيناريو متكاملًا من شخصيات متباينة في تواريخ متباعدة وأخرى متقاربة.
ــ صراعات نفسية ورمزية أدبية في الشخصيات
ترتكز الرواية على شخصيات معقدة تعددت بتعدد أنماط النفس البشرية، لكل واحدة منها دلالة على قطيع من البشر: الغني والفقير، القوي والضعيف، البسيط والمهيمن، المتكبر والخانع، العاشق والمخادع، المحتال والصائب، الحاضر والغائب. شخصيات تحمل أبعادًا نفسية ودلالات معنوية ورؤية عميقة، تجعل منها دراسة أدبية في كيفية تصوير الصراعات الداخلية:
سحر – البطلة العالقة بين الحلم والواقع:
تُقدَّم سحر، مهندسة معمارية مرموقة، نموذجًا للمرأة غير التقليدية؛ فهي ليست مجرد رمز للرومانسية، ولا الحميمية، ولا التلقائية، ولا العنصر الذي لا بد منه لتلطيف الأجواء، بل تجعلك تعيش صراعًا بين العاطفة والمنطق، بين الإدراك والضياع، التشتت والقوة، الضعف والوهن، الخوف والسلام، مما يخلق حالة من التشويق الدائم لدى القارئ.
ثابت – الطبيب النفسي وحامل الأسرار:
يُجسد ثابت التناقض بين التحليل النفسي والظواهر الماورائية، حيث يحاول فرض المنطق في عالم تتعارض فيه الحقائق مع الخيال. فيسير على هدى من أمره تارة، وعلى غير هدى تارة أخرى، فتارةً يصل، وتارةً ينقطع، وهكذا دواليك حتى...
شخصيات ثانوية وعناصر رمزية:
تساهم الشخصيات مثل ياسمين وحازم وخالد في إضفاء أبعاد جديدة على الحبكة، إذ تُستخدم كرموز للكشف عن أسرار النفس البشرية، التي يعجز عن فك شفراتها العلم والمنطق. كذلك، يصبح تعددها – وفي بعض الأحيان – كأدوات لفتح نوافذ جديدة في سرد الأحداث.
ــ اللغة والأسلوب: مزيج بين الفصاحة والواقعية
الأسلوب الذي اتخذه أحمد عثمان عاكسٌ ومؤكدٌ توازنًا دقيقًا بين اللغة العربية الفصحى والحوار العامي، مما يُضفي على الرواية طابعًا مميزًا:
الفصحى كواجهة أدبية:
تُضفي اللغة العربية الفصحى على النص رونقًا أدبيًا، وقوة تعبير، وسلامة منطق، وجزالة عرض، ووصول الفكرة، وقوة العبارة التي تساعد في نقل الأفكار والمشاعر بكفاءة وجمال، سريعةً بغير خلل، مكتملةً بغير ملل، تتحلى بالمرادفات الممتعة، والسعة في الخزانة اللغوية.
الحوار العامي والواقعية:
يساهم استخدام العامية في جعل الشخصيات أكثر قربًا وإنسانية، بلغة ولهجة بسيطة، حقيقية، وصلت إلى أعماق القارئ وفهمه وفكره، وصوّرت معاناة كل شخصية، وغاصت في أعماق أبعادها، مما يُعزز من إمكانية تفاعل القارئ مع الأحداث والمواقف اليومية التي يمر بها الأبطال، فيحزن مع حزنهم، ويفرح مع فرحهم، ويغضب مع غضبهم، ويتشتت مع تشتتهم، ويخشى ويخاف مع خوفهم ورعبهم.
ــ الرمزية والتحليل النفسي: عمق يتخطى السطح
لا يغرنك مظهرها الهين، فجوهرها ثقيل، حيث تحتوي الرواية على طبقات متعددة من الرمزية التي تُمكن الكاتب من استكشاف أعماق النفس البشرية بصورة فلسفية واعية، تنم عن قوة هذا القلم وجدارته بالكتابة ووصول مراده بكل تمام وكمال. ومن ذلك:
رمزية القصر:
لا يُمثل القصر مجرد موقع جغرافي، بل هو رمز لحالة الذهن المشوش والصراعات الداخلية التي يعيشها الأبطال، فهو مرآة لتقلبات الحياة وتحولات العلاقات الإنسانية ، تشعبها ، تعمقها ، تخبطها ، تفرعها .
التحليل النفسي والرمزية:
يعتمد الكاتب على أدوات التحليل النفسي لتسليط الضوء على صراعات الشخصيات، مما يجعل القارئ يتساءل حول مدى واقعية الأحداث، وهل هي انعكاس لاضطرابات داخلية أم تجسيد لواقع خارجي متشابك؟
ــ النقد المقارن والتحرر من قيود السيناريو
يطرح العمل تساؤلًا محوريًا حول قدرة الرواية على التحرر من قيود السيناريو التلفزيوني:
تجاوز الإيقاع السينمائي:
بالرغم من أن الرواية تحمل بصمات الدراما التلفزيونية، إلا أنها تُثبت بوضوح أنها عمل أدبي قائم بذاته، من خلال التركيز على العمق النفسي والتحليل الرمزي ، والدقة التصورية ، والمشهدية البصرية .
التحول إلى تجربة سردية متكاملة:
يبني أحمد عثمان عالمه الخاص، حيث يمتزج الواقع بالخيال، وتظهر فيه رحلة الأبطال بوضوح يتخطى مجرد استعادة للمسلسل؛ إذ تُصاغ الرواية بأسلوب يتيح للقارئ الانغماس في معانٍ أدبية وروحية متعددة.
ــ ختاما: تجربة أدبية فريدة تستحق التأمل
في خضم الأدب الحديث، الذي يميل أحيانًا إلى التكرار، تأتي رواية "روحي فيك" لتعيد تعريف حدود السرد والدراما، حيث يلتقي الشعر بالواقعية، وتندمج التحليلات النفسية مع الرمزية الأدبية في قالب متماسك يأسر القارئ.
بفضل عمقها وتعدد أبعادها، رأيت أن رواية "روحي فيك" معلمًا أدبيًا يستحق الدراسة والنقد من منظور متجدد، لتكون بذلك لوحة فنية تجمع بين الحداثة والأصالة المرونة والجمود في آن واحد.
#مسابقات_مكتبة_وهبان
#ريفيوهات_روحي_فيك