انتهيت من قراءة "بين القصرين" وأشارك معكم انطباعات خاطفة أوجزها في ثلاث ومضات قبل أن أغوص في "قصر الشوق":
مشهد الاستهلال يعتمد أسلوب أشبه ما يكون بتقنية تصويرية اشتهر بها فنانو عصر الباروك من أمثال رامبرانت وكارافاجيو، حيث تظهر عناصر العمل الفني من قلب العتمة إزاء تباين الضوء والظلمة، فكأنها خرجت للوجود للتو بفِعل ضوء كابي. هكذا تتبدى قطع الأثاث وتفاصيل غرفة النوم على ضوء المصباح الذي تهتز دائرة الضوء التي يلقي بها على سقف الغرفة، إيذانًا بتذبذب أحوال القاطنين في بيت سي السيد. ثم ها هي أمينة تجلس متأملة وجهها في المرآة ومتحسسة خصلات شعرها في مشهد يستحضر لوحات چورچ دي لا تور. قد لا يكون محفوظ قد طالع أعمال لا تور أو كارافاجيو، ولكن إبداعه أدبًا يحاكي نبوغهم رسمًا وتصويرًا.
ثم يأتي مفترق "الخروج من الجنة" إذ تضطر أمينة لمغادرة الدار عقابًا لها على عصيان "رب" البيت. بلمسات بسيطة، أخرج محفوظ مشهدًا عبقريًا، فها هي أمينة قد ارتضت العقاب كجزاء للخطيئة "الأولى"، وها هو قناع وجهها الأبيض مذكرًا إيانا بمسوح التوبة وأكفان الرحيل. أمينة "تهبط" من أعلى المنزل إلى الدور "الأرضي"، لا تقوى حتى على توديع ذويها…تذهب إلى منزل أمها فكأنه المنفى، ويبقى قلبها معلقًا بدارها رغم قسوة الجزاء وشراسة سي السيد، "فحيث كنزك، هناك أيضًا يوجد قلبك". لا تريد أمينة حرّية تسلبها الاستقرار والقربى.
وأخيرًا صعود روح فهمي في معراج هادئ وسط معترك شرس يدوي فيه الرصاص وتتدافع الحشود ويتعالى الصراخ. يتحكم محفوظ في الظرف الزماني فكأننا نشهد استشهاد فهمي "بالتصوير البطيء"، إذ صاغ محفوظ نصّا ينطوي على سرعات متفاوتة في المشهد ذاته: تتسارع الأحداث في وعي الجموع، بينما يتباطأ الزمن لفهمي قبيل وفاته.
في مشاهد متفرقة يبث محفوظ رؤاه حول عبث الأقدار وتقلبها ويطرح تساؤلات فلسفية طالما شغلته منذ دراسته للفلسفة، ولعل التناقضات الحادة في شخصيات سي السيد (الفظ في داره، الجذل في قعدات الأُنس) وأمينة (ضحية جبروت زوجها، وعاشقته رغم ذلك) وطرحها كأمر طبيعي يتسق مع تناقضات الحياة ذاتها هو منتهى إدراكه النافذ لطبيعة النفس البشرية، وهو ما أورده على لسان سي السيد إذ يبرر انصياعه للشهوة دون التفريط في فرائض الله.
عمل جبّار بلا نقائص أو شوائب، ممتع لمن يهوى القراءة، مُعجز لمن ألِف الكتابة.
#Camel_bookreviews