“روحي فيك” لأحمد عثمان..لعبة الحب والمراوغة.
بعنوان مراوغ ” روحي فيك” يستهل أحمد عثمان روايته الصادرة عن دار كيان 2025 ، بمتن سردي من 256 صفحة ، يحمل العنوان كعتبة قرائية أولى للنص عدة تأويلات تتزايد بالتعمق داخل السرد، فتجعل القارىء تارة يميل إلى أن “هي” / روح جميلة الفنانة التشكيلية عادت إلى الحياة في جسد سحر نعمان مهندسة الديكور ، ولكن سرعان ما يتم العدول عن التصور هذا من خلال مونولوج بين جميلة وسحر أبرز الصراع خارجيًّا حين أكدت جميلة لسحر أنها هي من تقمصت شخصيتها لا العكس، وهناك تأويلات أخرى تظهر في الثلث الأول من السرد هل ثابت من يقولها لزوجته سحر، أم سحر من تقولها لزوجها خالد، أم جميلة من تقولها لزوجها خالد، أم خالد من عمل بها في علاقته بكل من جميلة وسحر.
يدور العمل حول مهندسة الديكور سحر نعمان التي تذهب مع زوجها الدكتور ثابت والذي يعمل كطبيب نفسي في زيارة إلى عزبة تطل على النيل- لم يذكر لها اسمها – وهناك ترى في القصر لوحة “هي” فتسحبها اللوحة وصاحبتها إلى عوالم أخرى، فتجد نفسها داخل بؤرة من الصراعات ما بين جنون فنها ومنطقية زوجها، بين واقعها وماضي آخرين، لا تدري هل هي من اقتحمت حياتهم أم هم من اخترقوا واقعها.
” الفنان الحقيقي يستطيع إيجاد كل ما هو جميل داخل القبح”
سيمائية الأسماء وناكرومانسية الواقع.
شكل اختيار أسماء الشخصيات نقطة رئيسة في مسار السرد إذ حملت في طياتها العديد من الدلالات التي تتسق مع صفات أصحابها، فنجد البطلة تسمى سحر وهو اسم يتشابه في نطقه والفعل سَحَرَ لا من حيث الأصوات وحسب بل أيضًا من وجهة نظر الأم “رقية” التي ظنت أن تصرفات ابنتها سَحر سببها السِحر والأعمال، كما حدث مع زوجها نعمان قبل أن يموت منتحرًا .
الأم رقية أيضًا حمل اسمها دلالة الرقية، ولكن بتقنية المفارقة فهي المرأة التي تفسر كل شيء وبلاء تتعرض له أنه سحر ، بدلا من أن تستمد قوتها من إيمانها ومدلول اسمها، تلجأ للمتوسطات فكانت فريسة سهلة في يد المشعوذين والدجالين كأمثال الشيخ حارس الذي استغلها هي وابنها ونهب منهما ما نهب.
أما عن “جميلة” سيدة القصر والتي ظنت سحر أنها عادت للحياة عبر جسدها، فقد بحثت سحر عن الجمال المفقود في واقعها مع زوجها ثابت وأسرتها لتجده في عوالم جميلة وزوجها خالد.
وعن خالد زوج جميلة فقد حمل اسمه مفارقة عجيبة حيث أخذه الموت في شبابه فلم يكتب له الخلود الجسدي، فعادت سحر لتحييه وتكتب له الخلود من جديد بتوهمها أنه زوجها، وأن كل ما قام به مع جميلة عاد ليفعله من أجلها، وقد أكدت سحر هذا حين تواجدت مع خالد في المعرض وأخبرها أنه سيكون معها بطريقة مراوغة وحين كانت معه في السيارة حتى وكان كلامه مضمرًا ، وهي نقطة أيضًا تحسب للكاتب ليجعل القارىء يصدق حدسه بإن خالد ما هو إلا وهم في خيال سحر، قبل حتى أن تكشف جميلة أوراق لعبة المراوغة.
“حين يموت أحباؤنا، تتخلى عقولنا تدريجيًّا عن ذكراهم”
وكذلك ثابت كان له نصيب من اسمه، فرغم انسياق الجميع وراء الإيمان بالماورائيات، لم يتزعزع إيمانه بالعلم كتيار مضاد للشعوذة، حتى في لحظات الضعف كان السبب الفضول لمساعدة سحر.
حتى أطياف زوجة سليمان والتي كانت وما زالت تعمل في قصر جميلة كان لها نصيب من اسمها ، ومع ذلك فهي الوحيدة رغم جهلها وبيئتها حاولت في النهاية التمرد والرجوع عما يفعله زوجها المشعوذ سليمان.
ولأن سحر مريضة بالفصام مثل والدها نعمان ولا أحد يكتشف هذا حتى زوجها الطبيب النفسي إلا في وقت متأخر ـ تروج سحر أمام صديقتها ندى وذراعها اليمين في شركتها أنها تزوجت من خالد بعقد زواج عرفي ، كحيلة دفاعية جمّلها لها اللاوعي كي تهرب من واقعها، وهذه النقطة بالتحديد تحسب للكاتب فالزواج العرفي هو الطريقة التي لا تجعلها تقع في مواجهة مباشرة أمام نفسها وليس المجتمع ، وإن كان غير ذلك فلم نجد هناك جميلة ولا خالد.
أبناء ولكن…!
رغم أن الصراع بدا للقارىء واضحًا بين العلم والشعوذة ، لكنه لم يكن الصراع الأقوى في العمل، إذ بزغ صراعًا آخر أكثر قوة وتأثيرًا تمثل في تأثير الوالدين على صغارهم حتى أنهم كبروا وما زالوا يحملون على عاتقهم آثام الماضي وأخطاءه، فنجد أن أزمة سحر سببها عوامل چينية ورثتها من الأب، وعوامل بيئية اكتسبتها من وسطها المحيط حيث الأم التي لم تكن سوية بالقدر الكافي الذي يؤهلها لتربية صغارها، وقد تجلى ذلك من خلال المونولوجات بين ثابت زوج سحر ورقية أمها، وبين رقية وحازم شقيق سحر، وبين سحر نفسها والأم، وبين سلوكها واعتيادها على الذهاب للشيخ حارس.
ولهذا شعرت سحر أنها المذنبة الأولى حين فقدت ابنتها نورة.
ولذلك أيضًا مزجت دون وعي بين عالم جميلة وعالم والدها نعمان.
وهي الأزمة نفسها التي عانى منها مالك ابن جميلة في طفولته وإن كانت من نوع آخر .
وكذلك ابن ياسمين وحازم شقيق سحر ، حيث نجحت ياسمين في إذلال حازم حتى لو كان حساب ابنها المراهق حين جعلته يرى ويشاهد والده وهو يخونها.
ففشل الراعي في تولي مسؤولية رعيته، جميعهم سعوا لمكاسب مادية على حساب صغارهم، أفنت جميلة عمرها في محبة زوجها خالد ولوحاتها على حساب صغيرها، وهرولت رقية خلف الدجالين ومجالسهم دون الوقوف على سبب الأزمة الحقيقية لمصابها، بينما سعت ياسمين لإحكام السيطرة على زوجها حازم حتى لو قدمت ابنها قربانًا للأزمات النفسية.
نقطة هامة في مونولوج بين ثابت باعتباره طبيبًا نفسيًّا وياسمين باعتبارها حالة .
” احنا ما بندفعش فلوس عشان نتكلم يا ياسمين، احنا بندفع عشان نتسمع”
هذه الجملة التي تضمنها المونولوج كانت بمثابة تفصيلة جوهرية في الصراعات فأغلب شخصيات العمل بشكل خاص، والناس بشكل عام بحاجة إلى من يسمعهم ، فأغلب من يذهبون للعيادات النفسية فقط بحاجة إلى من يسمعهم دون كود أخلاقي ، أو خطابات وعظية، وهذه النقطة لا تنفصل عن تهميشهم في الماضي ومحاولة ترويضهم وإسكاتهم. فرغم مفارقة الجملة من حيث وجود طرفين متكلم ومستمع إلا أن ثابت بجملته هذه أكد على الفجوة الحقيقية في العلاقات لا سيما إن كان هناك خلل في قنوات التواصل والاتصال، فالجميع يتكلمون ولكن القليل من يستمع.
العمل في مجمله جيد في طرحه، وإن كنت آمل أن توضع أسماء أبطال المعالجة الدرامية التي تم عرضها قبل كتابة الرواية في نهاية العمل وليس في مقدمته حتى لا يحسر خيال القارىء في هذه الشخصيات بعينها، لا سيما أن هناك بعض القراء لم يشاهدوا العمل في ثوبه الدرامي.
خطأ بسيط أيضًا أود لو يعالج في النسخة الرقمية ص١٢٤ في حوار بين حازم وحارس، فقد ذكر اسم ثابت بدلًا من حازم .” يعلق ثابت مندهشًا” .