رقم مائة وعشرون/2024
ماذا علمتني الحياة
جلال امين
تطبيق ابجد
“”إن الحرمان المادي في الصغر أمر خطير للغاية إذ يترتب عليه في الغالب مادية مفرطة في الكبر. هكذا كنت أميل دائما، كلما رأيت شخصا يسيطر عليه حب المال، إلى البحث عن سبب ذلك في ظروف نشأته، وكلما وجدت شخصا كريما سخيا ومستعدا للتضحية بالكسب المادي من أجل فكرة أو مبدأ افترضت على الفور أنه لم يصادف حرمانا في صباه.””
“”عندما أقرأ الآن ما كتبه أبى عن حيرة جدى، والجهد المضنى الذى بذله لاختيار نوع التعليم المناسب لابنه، وعن العذاب الذى تعرض له أبى من جراء إخراجه من مدرسة بعد أخرى لإدخاله مدرسة يسمع عنها جدى أنها أفضل وأنسب، أشعر بالإشفاق على أبى وجدى على السواء أشعر أيضًا بالإشفاق كلما سمعت الآن عن حيرة الكثيرين من معارفى وأصدقائي لنفس السبب، والتضحيات الكبيرة التي يبذلونها لكى يتعلم أولادهم في مدرسة دون أخرى ذلك أنه لم يعد لدىّ شك في أننا نبالغ بشدة في أهمية المدرسة في تنمية القدرة العقلية للطفل أو تنمية حسّه الخلقي نعم، هناك بلا شك مدارس أكثر قدر.””
“”بتفكير عميق وقلم شديد السلاسة- يحول امين سيرته الذاتية الى اداة سبر للمجتمع الذي نشأ فيه.. فاذا به يقارن بين ظروف نشأته وظروف نشأة والده ومن ثم أولاده وأحفاده، ويرجع الملاحظات الخاصة (التي قد تكون عادية ويعتبرها البعض عابرة) الى ظواهرها واصولها العامة فيربط الخاص بالعام ويتحول الفرد الى مرآة عاكسة لمجتمعه... ويتحول كتاب السيرة الذاتية الى كتاب يتناول حياة اجيال بكاملها. يتناول الكتاب بعض التفاصيل الشخصية و لكن بهذا الربط الحيوي و الذكي مع الاسباب العامة فعند ما يتحدث عن اخوته الثمانية و الاختلاف في شخصية كل منهم رغم نشوئهم في بيئة واحدة يكاد يرسم “بوتريه” لكل منهم بطريقة شديدة الذكاء و الصراحة ايضا..و يتناول طبعا تحوله الفكري العميق و الهادئ من القومية في بواكير شبابه الى الاشتراكية الى المادية الوضعية الى ان وصل الى مرحلته الاخيرة في نظرته الايجابية و المتعاطفة مع الدين عموما و الاسلام خصوصا ، و هي نظرة اخرجته من صف اليساريين و لكن لم تضعه بالضبط في خانة “الاسلاميين”
تصنيف الكتاب:
1. الكاتب واسرته:
جلال امين هو ابن المفكر والاديب احمد امين الكاتب المصري المعروف حيث ولد عام 1935بالقاهرة، لذلك بدا الكاتب كتابه بالحديث عن والده المفكر الشهير أحمد أمين أنه في يوم زواجه من أمه لم يذهب معها لا ستوديو التصوير، وإنما ذهب بملابس الزواج إلى ستوديو التصوير بمفرده أخذًا معه كتبه، والتقط معها صورة، كتب على ظهرها بعد ذلك أنه يأمل أن يكتب ما ينفع الله تعالى به أمته، وما حكاه جلال أمين يوضح شدة حب وتعلق أبيه- رحمه الله- بالكتب. فاحمد امين لم يكن أبا متسلطا او بعبارة أخرى ظالما او منبسط بدرجة كافية مع الزوجة والاولاد، ولذلك تفاوتت مشاعر أبناءه نحوه، بل لم يكن زوجًا عاطفيًا وكان هناك فرق كبير في الامكانات العقلية بينه وبين زوجته، لكنه في المقابل نستشف مما كتبه جلال أمين أنه كان زوجًا مثاليًا من ناحية التزامه الخلقي وقيامه بمسؤولياته كاملة تجاه بيته، ثم يشرع جلال أمين في سرد مذكرات شخصية كتبها أحمد أمين وقعت في يده، شيء أشبه باليوميات، تكلم فيها أمين عن أشياء شخصية، منها أشياء تخص زوجته، فكان تحسبًا من أن تقع في يدها، كتب بعض الفقرات التي تخصها باللغة الإنجليزية، لكن يبدو أن مسألة عدم جمال زوجته كان مؤرقًا له، وقد كتب ذلك بالإنجليزية أكثر من مرة، لكنه مع ذلك كان وفيًا لها، جل وقته يقضيه في البيت بين القراءة أو الكتابة
إخوته سبعة، خمسة أولاد وبنتين، لكل واحد منهم شخصية مختلفة تمامًا عن غيره، حيث تحدث عن كل أخ من اخوته من خلال السن التعليم الهوايات والشخصية العامة ودورها في المجتمع، فهناك من يحب المال حبًا كبيرًا مثل محمد الأخ الأكبر وهناك من لا يكترث له مثل الأخ الأصغر او الشيخ كما كانوا يطلقون عليه، وهناك البنت المثقفة تثقيفًا أجنبيًا وهناك البنت التي لا تهتم بالثقافة ولا بالتعليم، ومع ذلك تركت ثروة لا باس بها.
تحدث عن أوجه الاختلاف المنزلي فالجميع لهم اب واحد ام واحدة نشئوا في بيئة واحدة خضعوا لنفس نوع التربية وعاشوا تحت سقف واحد، لكن ميولهم طباعهم ثقافهم مختلفة حيث يرى الكاتب ذلك في معرض سؤال خاص في صفحات الكتاب عن أوجه الاحتلاف أن الثقافة والادب للمرء يولد مع الطفل بدرجة معينة، وبه يفسر سبب كون أحد إخوته يكذب بينما الآخر يستشنعه، أو أحد إخوته يقرأ بينما الآخر لا، وهكذا، وهي أمور يمكن ان تطبق في الحياة العامة مثل الطعام والشراب والحب والحزن والغضب والحلم الى كل الأمور.
2. ثقافته ودراسته:
تحدث عن حبه للثقافة والكتب من خلال حديثه عن الكتب التي قرئها مثل أي طفل ثم شاب كان اهتممه اهتمام الشباب في حينه حيث فتن لفترة بطه حسين، ولكن وجد بعد ذلك على حد قوله مملًا ومصطنعًا، ويحكي عن قراءته لكتب الأدب الإنجليزية، وبداية محاولاته الكتابية وقد سمح له أحمد أمين منذ سن الرابعة عشرة بنشر ما يكتبه في مجلة الثقافة، ويحكي عن تعلقه بالسينما، وبأغاني أم كلثوم، ويذكر أن والده أهداه كمنجة نظرًا لحبه للموسيقى، ويحكي عن سنواته في الجامعة فيتكلم عن سنة أولى جامعة ويقدّر عدد دفعته بثمانمائة طالبًا منهم عشر طالبات فقط، وهذا في بداية الخمسينات، يحتفى أمين ببعض مدرسي الشريعة الذين درّسوا له في كلية الحقوق بالقاهرة مثل " عبد الوهاب خلاف" و " محمد أبو زهرة" و " على الخفيف"، لكن مما يعيبه أمين على النظام التعليمي في جامعة القاهرة في وقتها أنه لم يكن ثمة تواصل بين الأستاذ والتلميذ، ويعقد المقاربات بين دراسته في لندن للاقتصاد وبين دراسته في القاهرة، ويصف الشيخ أبا زهرة بأنه كان محبًا للدعابة.
3. مرحلة النضوج والشباب:
مثل كل شباب تلك الفترة كانت القاهرة مدينة الفن والعلم حيث الغناء والطرب لذلك تحدث الكاتب عن أم كلثوم قائلًا “بلغت قمة شهرتها وتألقها -في منتصف الأربعينات إلى منتصف الخمسينات-، وأصبحت المصدر المتجدد لسرورنا، ومن أغانيها الجديدة، أغنية غالب أصالح في روحي، وسلوا قلبي، ويظالمني، وغيرهم. وكان السينما وقتها مصدرًا للمتعة الخالصة، فقد كان نوعها الميلودراما الصاخبة، وقد تعرفّنا على موضوعات الروايات العالمية كالبؤساء لفيكتور هوجو، وغادة الكامليا لألكسندر ديما، وغيرهم، مما قدّر منتجو الأفلام في مصر ملاءمتها للذوق المصري، وإدخال التعديلات المناسبة عليها.”وقد دخلت موسيقى كموسيقى بيتهوفن وتشايكوفسكي وأغاني جديدة كالتانجو والرومبا، والأفلام الأجنبية للممثلين والممثلات منهم: إن جريد برجمان، وهيدي لامار وغيرهم، والمنتجات الأمريكية المختلفة من الصحف والملابس والسيارات والمأكولات والمشروبات، وأجهزة الراديو والأسطوانات الحديثة، كل هذا أعقاب الحرب العالمية الثانية
4. الحياة الاجتماعية والسياسية:
يقول جلال أمين أنه تعرف على مفاهيم القومية العربية من خلال الطلبة العرب الذين كانوا أعضاء في البعث العربي الاشتراكي، وقد انضم لحزب البعث، وهو يقيّم تجربته هذه بأنها كانت تجربة صبيانية، ويقول أنه بدأ منذ الخمسينات في القراءات الماركسية، يحكي عن بعثته لإنجلترا، وشغف أحمد أمين بتعلم أولاده للغات الأجنبية، ولكنه مع انفاقه ببذخ على تعليم أولاده لم يكن يجلس للحديث معهم، أو مشاركتهم أفكارهم، من مميزات جلال أمين هنا - بتصوري- أنه كان يدرس الرأي ونقيضه، خلال بعثته إلى إنجلترا قرأ عن الماركسية وقرأ ما كُتب في نقدها، وهذا كان يُحدث فيه تغيرًا بالتدريج ودون شعور واعي منه؛ مما أفقده حماسه للماركسية تدريجيًا، وكما كانت فترة البعثة هي فترة فتور الماركسية عنده، كانت كذلك فترة وقوعه في الحب من ( جان) الفتاة الإنجليزية التي ستصبح فيما بعد زوجته.
في السياسة يقول بأن والده أحمد أمين لم يكن يحب حديث السياسة، ولكن جلال أمين كان شغوفًا بها، فعمره السياسي الحقيقي كما يقول هو عمر ثورة يوليو، فيحكي عن سنوات الثورة وهياج الجامعة لعزل محمد نجيب، والشغب المدفوع من قيادات الثورة ضد السنهوري باشا، ويقول أنه كره عبد الناصر في تلك الفترة، وكره معاهدة الجلاء بسبب شروطها، وراي أن حادث المنشية من تدبير الحكومة، لكن يقول أن شعوره تجاه ناصر سيختلف مع تأميمه لقناة السويس، ويرى جلال أمين صحة مقولة تأييد الأمريكان لثورة يوليو ومساندتها وهو ما لم يدركه وقتها، ويشرح حالة الاستبداد الذي خلقه النظام الناصري وأدى إلى مراقبة كل شيء، وخشيته من الكلام في السياسة مع أي حد، سيحكي عن النكسة وعن ضبابية المعلومات حول أسبابها في ذلك الوقت، وسيتكلم عن موت ناصر الذي لم يحزنه، ولأن جلال أمين كما يبدو سريع التقلب ستتغير مشاعره مرة ثالثة نحو ناصر في عهد السادات الذي أصابه بخيبة أمل بمعاهدته للسلام مع إسرائيل، وبالتالي لا يخفي جلال أمين فرحته عندما سمع بمقتل السادات، ويؤكد أن نفس سياسة السادات طبقها مبارك في أول عشرين سنة لكن بطريقة أقل فجاجة من طريقة السادات.
تطرّق جلال أمين للحديث عن قصة كتابه الذي اُشتهر به وهو كتاب (ماذا حدث للمصريين؟) الذي نُشر ١٩٩٨م، واختار فيه أن يكتب عن التغيرات والتطورات في مركز المرأة في مصر خلال الخمسين عامًا الماضية، من خلال ما حدث من تطورات لمستها من خبرته الشخصية، فقارن بين مركز ثلاثة أجيال من النساء في أسرته، جيل والدته، وجيل أُختيّه، وجيل ابنته، مازجًا بينهم وبين تجربة المجتمع المصري. ويقول عنه: “لاحظت أن الكتاب يمزج أيضًا بين وصف تجارب شخصية لي وتجارب المجتمع المصري ككل” ص٢٥٢. نويت بعد قراءة الجزء أن أقرأ الكتاب ليس بسبب شهرته، ولكن جذبني للكتاب اهتمامي في تلك السنوات.
ذكر عدة مرات في الحديث عن ثورة يوليو والتي كانت في ١٩٥٢م وعن الآمال التي انعقدت فيها، وعن آثارها الباقية في مصر حتى الآن حسب قوله، ووصفه للسنوات ب العصر الأمريكي وحديثه عن ١٩٦٧م. وإسهابه أيضًا في موضوع نمط الحياة الأمريكية وجوانبه الكثيرة حسب تجربته الطويلة
5. .حياته العملية:
تحدث عن عرض العمل من الجامعة الأمريكية في مصر، واصفًا إياه مبدئيًا بالعمل الغير وطني، ودرّس فيها لاحقًا لسنوات ولم يشعر بأنه يقوم بعمل غير أخلاقي أو يتنكّر لوطنه وقومه، ولمس لدى كثيرين من طلاب الجامعة شعورًا وطنيًا قويًا، بل بعضهم كانوا أكثر قدرة على التعبير عن هذا الشعور الوطني أكثر منه، حسب قوله ثم تحدث عن مرحلة الكويت وعمله هناك وتركه مصر وغيره.
توفيّ المؤلف والاقتصادي المصري جلال أمين في 25-09 من عام 2018. رحم الله المؤلف ووالديه وأحبابه حيث تحدث في اخر الكتاب عن مرضه وشيخوخته وتذكر والده عندما كبر.
الكتاب سيرة ذاتية مميّزة وخالدة، شملت جوانب كثيرة في حياة المؤلف والبلد بشكل عام آنذاك، من نقاط الكتاب الجميلة التنوّع في المواضيع، وتقسيمها، وأسلوب المؤلف البسيط والواضح، مثل تبسيط الحديث عن أوضاع مصر. وأعجبني انفتاحه في الحديث عن أسرته وإخوانه وأخواته، أعجبني ذكره للمؤلف الإنجليزي جورج أور ويل في مواطن عدّة، واصفًا إياه بالكاتب المحبّب إليّ، وعدم إخفاء المؤلف لا آرائه في مواضيع كثيرة ولم يعجبني حديثه عن بعض الأمور بتكرار ممل.