منحنا الأديب الدكتور مصطفى جمال رواية رائعة هي "عهد مريم"، الرواية بديعة والفكرة رقيقة والحبكة مبتكرة والتقنية متحدية.

عندما بدأت القراءة ومع انتقالي عبر الفصول وجدت نفسي أمام لوحة فنية كبيرة وجميلة لرسام مبدع، ربما تشبه اللوحة التي قدموها لمسابقة جائزة لوكسمبورج للفنون، فأحداث الرواية موجودة منذ اللحظة الأولى، نثرها الكاتب ببذخ فوق صفحات الكتاب، كانت تلك الصفحات تتجمع وتتراص بجوار بعضها البعض في مصفوفة بديعة، لتصنع اللوحة الفنية الكبيرة، وكان علينا أن ننتقل ببصرنا من نقطة إلى أخرى فوق اللوحة كي نرى كل الأحداث، ولأنه لا يمكننا رؤية الأحداث كلها مرة واحدة، فقد أمسك الراوي بيدينا ومضى بنا فوق الصفحات يرشدنا إلى ترتيب النظرات على اللوحة لكي نفهم الحكاية.

عندما تبدأ في قراءة هذه الرواية البديعة لن يكون أمامك فرصة للاختيار، سوف يسلمك كل فصل في الرواية إلى الفصل التالي في نعومة، وستمضي في استسلام واستمتاع، ستشهد كيف بدأ عهد مريم الأول بين إيمان وفريدة وستشهد كيف بدأ عهد مريم الثاني بين فريدة ومروة، سوف تجذبك تلك الحبكة المشوقة، وسوف تذيبك تلك اللغة العذبة الرقيقة، وسوف يخفق قلبك مع قلوب كل أطراف العهد، عهد مريم.

رأينا حيرة مصطفى جمال بين الطبيب الرحيم والأديب المتدفق والإنسان المرهف وهو يحنو على شخصيات روايته، يحاول أن يدفع عنهم كل شر، على الرغم من قسوة الدراما أحياناً وقسوة الحياة دائماً.

لم ينسى الدكتور مصطفى جمال أن يداعبنا ثقافياً وفكرياً وعقلياً وأيضاً وجدانياً، ففي بداية الرواية افتتح الكتاب بأبيات من قصيدة "المساء" للشاعر إيليا أبو ماضي، ودعانا إلى تذوق الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية والروايات الرومانسية عندما مزج عذوبة صوت فيروز في "سهار بعد سهار" مع تلاعب سرد چاين أوستن في "كبرياء وتحامل"، ثم بعد ذلك عندما استحضر ملامح "توراندوت" أوبرا بوتشيني، ونموذج "كيوبلر روس"، وتجليات الفسيونومي أو علم الفراسة في محاولته للانتقال من خانة السودو ساينس إلة خانة العلم الحقيقي، ثم أخيراً عندما حام حول أسوار الفانتازيا في فصل الدفتر الأخضر.

لم نعد ندري هل الكاتب هو الجراح نابه العلم أم المثقف واسع الاطلاع أم الأديب عذب القلم، ثم أيقننا أن كل هؤلاء قد امتزجوا في رسام أمسك ريشته ورسم لوحة جميلة تشبه لوحة ليلة النجوم لڤان جوخ أو لوحة جائزة لوكسمبورج، لوحة تضم كل الأحداث وكل الأفكار وكل المشاعر، ثم جعلنا نتنقل ببصرنا في أنحائها، فنشعر بنشوة الجمال حين يخترق الحواس ونشوة المشاعر حيت تخترق الوجدان، ونشوة المعرفة حين تخترق العقل، فإذا بنا نجد أنفسنا جميعاً قد انضممنا إلى عهد مريم.

ناصر اللقاني