"الداء الحقيقي هو الخوف من الحياة لا الموت."
خاف أبطال رواية "ثرثرة فوق النيل" من الحياة، فالموت بالنسبة لهم غاية بعيدة المنال، هم يحبون الحياة بكل تأكيد، ولكن، ليس تلك الحياة التي نعهدها ونعرفها، تلك الحياة الغارقة في أبخرة الحشيش، تلك الحياة التي تجعل من الواقع جنة، بدلاً من مرارة سوداويته، يُدخنون الجوزة المعمرة بالحشيش، فيسنون العالم بما فيه، فلتذهب كل المشاكل السياسية والاجتماعية إلى الجحيم، أفلامي فاشلة ولا أحد يراها؟ لا يهم! أكتب نقداً من أجل المصالح الشخصية والمنفعة؟ لا يهم! أتحايل على القانون بدلاً من أن أطبقه؟ لا يهم! أسوغ مبررات لنفسي لكي أخون زوجي؟ لا يهم! أدائي مختل في عملي وعلى بعض خطوات من أن يفصلوني؟ لا يهم! كل تلك الأشياء المسماة حياة لا تهم طالما الجوزة لا تزال في فمي، استنشق أبخرتها، فتذهب إلى عقلي فتغيبه، تفصله عن الواقع، بل أعيش في واقعاً موازياً، أتأرجح فيه وأسقط دون أن أتحرك من مكاني، ولكن كما تعلمون هذا عمل لنجيب محفوظ، وليس عملاً توعوياً عن خطورة الإدمان، فهنا رمزية شديدة التعقيد عن الشعوب المُغيبة، ورغم أن الرواية مُحدد زمنها بداخل أحداثها، ولكن، هذه رواية تصلح لكل الأزمان، فالسلطات على اختلاف أنواعها تُحاول بشدة وضراوة أن تُغيب شعبها، ونحن -كمصريين- ندرك ونعي مصطلح "بُص العصفورة" الذي أصبح مُطبقاً في العالم كله.
❞إنه لم يكن عجيبًا أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن حقًّا بأنه إله.❝
أغلب شخصيات الرواية لديها خيبات دفعتهم دفعاً إلى الهروب من واقعهم إلى واقع مواز، يعيشون فيه، كل فرد فيهم لديه مأساته الخاصة، السياسية والاجتماعية والمالية وإلخ إلخ، فأتخذوا من العوامة ملهاة عما يشغل تفكيرهم، لا يريدون تعكير أفكارهم بحال البلد أو الحروب أو أي شيء خارج حدود العوامة، أتخذوا من العوامة بلداً لهم تحميهم وتأويهم، الداخل إليها مولود، والخارج منها مفقود، وهذه النوعية من المواطنين تُحبه السلطات، تتمنى أن يزيد ويزيد ويزيد عددهم، تبني لهم السلطات صوراً خيالية في عقلهم، من خلال إعلام مُضلل، فتقنعه بأن البلد يقوم بإنجازات هائلة في نفس الوقت الذي يجد أسعار كل شيء حوله تزايدت، فإلى أي مصب تذهب هذه الإنجازات؟
فيصبح الشعب مسطولاً، يتطوح يميناً ويساراً، ملهياً بأسعار سلعة ما ارتفعت، وينسى أي شيء خارج نطاق حدود حياته (عوامته)، وحتى لو كانت حياته ميسرة أو مرفهة، فيختار مُلهياً أخر، لكي يبتعد عن خيبات الأمل وما على شاكلته، الأمل شيء خطير، أليس كذلك؟
ختاماً..
رواية "ثرثرة فوق النيل" دسمة وأحداثها تكاد تكون معدومة، المهم هنا هو الرمزية، المهم هنا هو الفلسفة، وجدوى الحياة، هل نختار أن نكون "مسطولين" بأيدينا؟ نُغيب ونُدجن؟ أم أننا نستطيع المقاومة والخروج عن ابتسامة البلهاء المسطولين؟ وهل لو نجحنا وخرجنا مرة أو مرتين، فهل يضمن ذلك أن الحياة ستصبح جنة أو على الأقل تُطاق بعد ذلك؟ هذه رواية تعج بالأسئلة، لا تكف عن إزعاجك وإفاقتك من سطلانك، فتحتاج أن تقرأها كل فترة، لعلها يكون فيها طوق الإنقاذ من الغرق.