رقم مئة /2024
الايام - الجزء الاول من الاعمال الروائية الكاملة
طه حسين
يعتبر كتاب "الأيام" للكاتب العربي الكبير طه حسين من أهم السير الذاتية في الأدب العربي الحديث. يتناول الكتاب حياة طه حسين منذ طفولته في قرية الشهابية حتى نهاية حياته في القاهرة، ويقدم رؤية شخصية عن العصر الذي عاش فيه والتحولات الثقافية والاجتماعية التي شهدها. يتحدث الكتاب عن تجربة حياة طه حسين الشخصية، ويعرض قضايا مثل الفقر والجهل والظلم الاجتماعي والمساواة بين الجنسين وحقوق المرأة، ويقدم قصصًا شخصية عن أشخاص وأحداث شهدها طه حسين في حياته.
يعد كتاب "الأيام" للكاتب العربي الكبير طه حسين من الكتب الأساسية التي ينصح بقراءتها لفهم التحولات الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، كما يعد مصدرًا هامًا للتعرف على شخصية طه حسين ورؤيته الشخصية في الحياة والأدب.
,و كتاب الأيام، هو سيرة ذاتية صيغت في شكل مروية ينهض بها سارد عليم، تصور كفاح امرئ شاء له قدره أن يفقد البصر ولم يتخط عامه الرابع، ولكن إعاقته تلك لم تمنعه من طلب العلم والأخذ بأسبابه، بدءا بما كان يتداول في الكتاتيب من حفظ القرآن ومجموع المتون، وانتقالا إلى الجامع الأزهر كي يلمّ بعلوم ذلك العصر، ويصبح شيخا، كما شاء له أبوه، يتحلّق حول عموده الطلاب.
وقد أبدى الصبيّ نبوغا منذ صغره، وقدرة على تجاوز حجب الظلام، وحسّا نقديا حادّا، تبدى في نقده سلوك مشايخ بلدته النائية في صعيد مصر، وعاداتها البالية، وأمراضها المستشرية التي ذهبت ببصره وأودت بإحدى أخواته، ثم في نقده مشايخ الأزهر وأساليب التدريس فيه، كوصفه في آخر الكتاب ما تناهى إلى سمعه أول مرة من شيخه ذي الصوت المحشرج حول مسألة الطلاق، ما جعله يحتقر “العلم” منذ تلك اللحظة. وهو ما أثار حفيظة المشايخ مرة أخرى، عند صدور الكتاب عام 1927، أي بعد الضجّة الصاخبة التي رافقت كتابه “في الشعر الجاهلي”، الذي استعمل فيه منهج الشكّ الديكارتي.
هذا الكتاب، الذي وضعه طه حسين وهو لم يتمم الأربعين، استفاد فيه هو أيضا مما اطلع عليه من آداب الغرب في القصة والرواية أثناء دراسته في فرنسا، من جهة دقة الوصف وتخير اللفظ المناسب لتسمية الأشياء بأسمائها دون تعميم، ولكنه نهل مما اختزنته ذاكرته من لغة القرآن الكريم، الذي حفظه في سن التاسعة، طلاوةَ أسلوبه وصفاء لغته ورشاقة عبارته، فجعل لجملته إيقاعا تطرب له الأسماع، دون تصنّع ولا زخرف.
فالرجل يكتب بإشراق قل نظيره في الأدب العربي المعاصر، سواء في قصصه ورواياته، أو في محاضراته وحواراته، أو في كتب النقد والمقالة، وحتى في كتابه الشائق “على هامش السيرة”. اكتشفت “الأيام” في مطلع الستينات عند دراسة مقتطفات منه ضمن النصوص المبرمجة، وحفظت ذلك الموقف المؤثر يوم جلس الصبيّ لتناول العشاء بين أهله، فأخذ اللقمة بكلتا يديه، وإذا بأبيه يقول له في أسى “ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بنيّ”.
“كتاب الأيام” مثال فريد لأدب السيرة، صاغه طه حسين كعمل أدبي سردي، يمكن أن يقرأ بمعزل عن سيرة صاحبه، إذ يلمس فيه القارئ ما للكفيف من قدرة فائقة على إدراك الواقع في شتى تجلياته أفضل من المبصرين، وكان ديكارت أول من قال “إن للأعمى أنوارا لا يملكها المبصر”. وأما ما قيل عن اختيار طه حسين الدور الأجمل، فذلك من طبيعة هذا الجنس، ألم يقل مونتاني في مفتتح مذكراته “أنا نفسي مادة كتابي؟” وأما عن اعتداده بنفسه، فهو أمر مشروع، ولا نحسب أن ضريرًا بلغ مبلغه على مرّ التاريخ عدا عظيمين آخرين هما هوميروس والمعريّ، وإن شئنا الدقة أضفنا الفيلسوف اليوناني ديمقريطس
وكانت أخته تقطع عليه متعته تلك فتحمله إلى الداخل لتقطر له أمه في عينيه سائلا يؤذيه ولا يجدي عليه خيرا ، ثم تحمله إلى حجرة صغيرة لينام فيقضي ليله خائفا مضطربا من الأشباح والعفاريت التي كانوا يخوفون بها ألأطفال حتى يغلبه النوم فينام . ومع ذلك يستيقظ مبكرا ينتظر الفجر حتى يتوضأ والده ويصلي ويقرأ ورده ويشرب قهوته ويمضي إلى عمله قيقوم هو للعب ! كان يحس من أمه رحمة ورأفة ومن أبيه لينا ورفقا ومن إخوته شيئا من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له . ثم تبين سبب هذا كله فقد أحس أن إخوته وأخواته يصفون ما لاعلم له به فعلم أنهم يرون ما لايرى ، حدث ذات يوم أن كان يجلس إلى العشاء فأخذ اللقمة بيديه فأما إخوته فأغرقوا في الضحك وأما أمه فأجهشت بالبكاء وقال له أبوه بحزن : ما هكذا تؤخذ اللقمة يابني . وأما هو فلم يعلم كيف قضى ليلته وحرم على نفسه بعد هذه الحادثة طعاما كثيرا وأصبح يحب التستر بأكله دائما ! كان أحب اللعب إليه الاستماع للقصص والأحاديث في قريته فاستمع إلى قصص الغزوات والفتوح وأخبار الأنبياء والصالحين والنساء . وحفظ من جده الأوراد والأدعية كما حفظ القرآن كله في الكتّاب على رجل يسمونه ( سيدنا ) وكان ذلك قبل أن يتم التاسعة من عمره ، فدعاه أبواه شيخا . وهكذا ! كان له أخ في القاهرة يدرس في الأزهر وكان ينتظر كما يقال له أن يأتي أخوه ليأخذه معه فيدرس في الأزهر ولكن أخاه عاد فدفع إليه ألفية ابن مالك ليحفظه خلال العام وكتاب مجموع المتون ، وكلف الصبي أن يذهب إلى المحكمة الشرعية ليقرأ على القاضي ما يريد أن يحفظه من الألفية . وكان والده فرحا وهو يسمعه كل يوم يعيد عليه ما حفظ . ولكن الصبي لم يلبث أن مل هذا الحفظ وترك الذهاب إلى المحكمة وكان يخدع أباه فيقرأ عليه كل يوم من الأبواب القديمة التي حفظها في بداية عهده بالألفية فيصدقه ويبارك له . وعندما عاد أخوه اكتشف الأمر فلم يغضب ولم ينذر ولم يخبر أباه وإنما أمر الصبي أن ينقطع عن الكتاب والمحكمة وأحفظه الألفية في عشرة أيام . كان في قرية الصبي أنماط عديدة من البشر الذين يدّعون المشيخة والعلم في الدين ويؤثرون بأسوأ الأثر على عقول الناس ( لاحظوا أن هذه وجهة نظر الكاتب والله أعلم بحقيقة الأمر ) ، سكن بيتا غريبا ذا طريق غريبة : غرفة أشبه بالدهليز فيها المرافق المادية للبيت ثم غرفة أخرى فيها المرافق العقلية . غرفة النوم والطعام والحديث والسمر والقراءة والدرس ، فيها الكتب وأدوات الشاي وبعض الطعام .
كان يشعر بالغربة لأنه لايعرف هذه الغرفة ولايعرف أثاثها كما في بيته في القرية ومع ذلك أحب المكوث لأنه يعلم أنه إنما جاء ليلقي نفسه في بحر العلم فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب . وفي الأزهر كان يمشي سعيدا يخفف خطوه على هذه الحصر البالية التي تنفرج أحيانا عما تحتها من الرض كأنما تريد أن تتيح لأقدام الساعين عليها شيئا من البركة !!!!!
ولكنه عاش مع أخيه حياة لم تكن تخلو من عذاب ، ويبقى هو وحيدا في تلك الغرفة حتى يؤذن المغرب فيذهب أخوه إلى درسه ويتركه وحده أيضا يقضي هذا الوقت من نهاره وليله لايعرف النوم ولايعرف السلوى وإنما يعرف عذاب الوحدة والخوف . أقبل اليوم المشهود وسيذهب الصبي بعد درس الفقه إلى الامتحان في حفظ القرآن لينتسب إلى الأزهر رسميا ، وهناك . دعاه أحد الممتحنين بقوله : " أقبل يا أعمى " ! ثم صرفه بقوله : " انصرف يا أعمى فتح الله عليك " ونجح في الامتحان لكن طريقة الممتحن في استدعائه وصرفه تركت أبلغ الأثر في نفسه . أذن الله لوحدته أن تنتهي بوصول ابن خالته الذي كان رفيقه في القرية ليتعلم هو أيضا في الأزهر ، ثم عاد إلى القاهرة واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لاجديد فيها إلا ماكان يفيده من العلم كلما أمعن في الدرس ، وكان يجادل الشيوخ كثيرا ويناقشهم في كل ما يقولونه ولا يتقبل أية كلمة ما لم يكن مقتنعا بها تماما .
ثم بدأ يميل لدرس الأدب فحفظ مع أخيه معلقة امريء القيس وطرفة وعشرة مقامات من مقامات الحريري وبعض خطب الإمام علي من كتاب نهج البلاغة وبعض مقامات الهمذاني والكثير من ديوان الحماسة . وما زالوا يتحدثون بالسوء عن الأزهر وشيوخه حتى نزل بهم العقاب فمحيت اسماؤهم من الأزهر . لكنهم أعادوهم مرة أخرى . ومرت السنوات والفتى يذهب إلى الأزهر حزينا ويعود حزينا لشدة الملل الذي اعتراه منه . وأصبح لايذهب إلى الأزهر إلا مرة في الأسبوع أو الأسبوعين . واتصل الفتى بالجريدة ومديرها الأستاذ لطفي السيد وبالشيخ عبد العزيز جاويش وأخذ يجرب نفسه في الكتابة فعرف بطول اللسان والنقد اللاذع ، ومضت الأيام وتتابعت وحان وقت امتحان الأزهر لينال درجة العالمية فاستعد وحفظ ، وبالفعل سقط قبل أن يتم الامتحان !! وقد ذكر الفتى بعد سنين قصته هذه وقصته في الأزهر وقصته حين دخل غرفة الدرس لأول مرة في جامعة مونبلييه فسمع الستاذ يقول لزميله : أيكون زميلك مكفوفا ؟؟ وذلك لنه لم يرفع قلنسوته عند دخوله للدرس . تعلم الفتى الفرنسية ولكنه لم يتقنها . ز وفي تلك الأثناء قرأ في الصحف إعلانا من الجامعة عن بعثتين لفرنسا فكتب إلى رئيس الجامعة أحمد فؤاد يطلب أن يكون أحد المسافرين إلى فرنسا في بعثة درس التاريخ . أقبل الفتى على الدرس وساعده صديق له بقراءة آثار أبي العلاء المعري حتى بدأ في إملاء الرسالة وصديقه يكتب ثم قدمها إلى الجامعة وامتحن فيها فاستحق الدرجة وسافر إلى فرنسا . وكان أول طالب يحصل على الدكتوراه في الجامعة . بدأ في فرنسا بتعلم اللغة اللاتينية وإتقان الفرنسية وتعلم الكتابة البارزة وأحسنها ، وفي تلك المدينة التقى بالفتاة التي أحبها .