الأيام، بعد أكثر من عشر سنوات أعاود قراءتها، وكنت قد توقفتُ في منتصف الكتاب الثاني.
شعرتُ لوهلة ــ بعد أن فرغتُ من الكتاب ــ أنني أملك قدرة هائلة للتحدث عن محتواه وعن تأثيره الأدبي والإنساني، فإذا بي أجد صعوبةً أي صعوبة حالما شاهدتُ لقاءً مسجلاً لنجوم أدبية مع العميد، وكيف كان حضوره مهيباً جليلاً في نفس المشاهد المهتم فضلاً عما كان في صدور الأدباء معه في ذلك اللقاء. لكنني رغم ذلك سأحاول أن أتحدث بما أظنَّ أنه يتفق وبهاء حضوره في كتابه وفي ذلك العرض.
أعتقد أن الكتاب الجيد، هو ذلك الكتاب الذي لا ينتهي من صدر قارئه أبداً حتى وهو يغلق غلافه الأخير، أو يتأثر به فترةً ما، أو يكتب عنه شيئاً ما، الكتاب الجيد إضافة إلى كل ذلك هو الذي يلازم القارئ أغلب فترات حياته، وهو هو الذي يدفعه لأن يستزيد من مادته بشتى الوسائل الأخرى، وهذا باختصار ما حدث معي في أيام الأستاذ طه حسين. بحثت حالما انتهيتُ من الكتاب الأول عن مقالةٍ مفصلة عنه، قرأتُ بفكرةٍ أخرى ليست قريبةً من تلك الأولى التي مرت عليَّ من قبل لأستعلم شيئاً يذكر عن أدباء عصر النهضة، فكرة تمس تلك الصورة التي نقلها العميد عن نفسه صبياً بين ريفه الساحر، وأحياء القاهرة الحميمية المفعمة بالحياة والعلم. ثم تتبعت بعض ما قيل عنه ممن عاصره أو أعقبه بمدة يسيرة، ثم شاهدتُ ذلك اللقاء الذي أحجم فيَّ شيئاً من الإقدام.
حديثه عن أسرته واغترابه الذي يشعر به بين فترةٍ وأخرى كان يستنطق فيَّ حزناً وحنيناً غريباً لكنني أعرفه. يصور الأستاذ ذهابه إلى الكتاب، ومسامرات أبيه قريباً من البيت، وفي المنظرة مع أسرته، وذهابه إلى القاهرة، والحياة التي مارسها في الربع مع أخيه وبعض طلاب الأزهر، ثم الحلقات التي اكتظ بها الجامع، وإعلانات الأحذية المفقودة الملصقة على جدرانه، وطريقة أداء مشايخه في تدريسهم، وذهابه إلى فرنسا مبحراً كل ذاك يقع من نفسك وأنت تقرأه موقعاً يفوق الحسن، خاصةً أنه لا يستخدم من أداة الوصف إلا السمع، وكان على ما كان منه بديعاً جداً.
سيرة " طه حسين " تستحق أن تدرس على أصعدة كثيرة، أدبياً، لغوياً، إنسانياً، معنوياً، الطموح الذي أشعل فيه منذ صباه جذوة من المثابرة والصبر وعدم اليأس كافياً لأن يعلمنا أننا على يأسنا القريب من كذا عقبة لا نستطيع أن نحقق جزءاً يسيراً من أحلامنا، لا شك أني ككل قارئ حينما أقف على العقبات التي مرت به في حياته أقارن بها شيئاً مما كان قد حدث لي أو ما زال يحدث؛ لكنني أتعجب وأكبر منه أنه كلما تعثر قام فنهض ثانيةً كأنه لم يتعثر، بدا ذلك غير قليل: حينما أراد السفر ثم الرجوع إلى القاهرة ليتعلم، ثم في وحدته القاتلة مع أخيه الذي يتركه أحياناً كثيرة ليسمر مع أصدقائه فيجافي النوم قلقاً أرقاً، ثم في عدم تقبل أساتذته في الازهر لمناقشاته، واستهزائهم به، وسخريتهم من كف بصره، ثم في التماسه من الجامعة استثناءً ليلتحق بالبعثة التعليمية إلى فرنسا، مرةً واثنتين، وثلاث، ثم في معترك حياته الجامعية في فرنسا واختباراته التي لا تنتهي، ثم فيما تبقى له من عمره بين مناكفات ودراسات أدبية فكرية اتهم فيها اتهامات عقدية أغلب الظن أنها تركت فيه وجعاً ممضاً على ذلك المتراكم الذي ما زال ينبض بين حناياه.
اللغة التي تحدث بها " طه " لم تكن لغةً اعتيادية تقتصر وظيفتها على أن تكون أداةً لأن يفهم الناس ما يكتب ــ كما نصح بهذا في لقائه التلفزيوني ــ ولكنها زيادةً على ذلك كانت معنيةً بنفسها، متأنقة، رشيقة تقف بسهولةٍ حيثما يُراد لها، وتتحرك كأعذب ما تكون حينما تنطلق بجملٍ أو كلمات نفث فيها من روحه الوقادة تلك التي كانت في أشد جذوةٍ لها حين تزوج من تلك الفتاة الفرنسية العظيمة التي شاطرته حياته فكانت له عوناً يعتمد عليه ونوراً يرى به كل شيء، وهو الذي قال عنها أنه: " منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم".
كما أنه حينما أفاض بسيرته وحكى عن الفكرة التي لم تعجبه في طريقة ومنهج الأزهر المقيد بتقاليد ينتقدها، كذلك يقف على نفسه موقفاً شبيهاً بذاك حين احتد في اعتراضه على المنفلوطي لغوياً، وعلى شيء من الحدة التي كانت تعجب الشاويش ولا يرضى عنها لطفي السيد ولا هو نفسه فيما بعد.
الأيام وإن كان لم يكتمل في نفسه بما لحق من سيرةٍ، إلا أنه كتابٌ جدُّ نفيس في أدب السيرة، ويزيد على أن يكون رائعاً في سيرة الأدب.
شكراً أستاذنا الأديب العميد طه حسين، شكراً على هذا الأدب الماتع، شكراً على هذا الحديث الحميم الصادق، شكراً لأنك احترمت عقولنا وأخذت على شغفنا بهذا الكتاب، شكراً من القلب.