تقديم:

من قال ان البعد الجغرافي بالضرورة يعني اختلاف الثقافات ؟ هذه ليست قاعدة ثابتة طيلة الوقت. الفكرة ليست في مكان تواجدك ، الاهم هو البيئة الاجتماعية ، الثقافية ، الدينية التى تعيش وتنشأ فيها وهنا من الوارد جداً ان تتشابه الثقافات اذا تشابهت نفس الظروف البيئية السابق ذكرها.

بردية المهاجر هي تطبيق عملي على هذا الكلام. احداث تدور في مكانين جغرافيين متباعدين جداً؛ البرازيل ومصر.

قبل مراجعة الرواية احب ان اعدد بعض النقاط التي لفتت نظري فيها:

- الرواية خارجة عن المألوف وعن تقليدية الموضوعات التي تناقشها أغلب الروايات الاجتماعية حيث ينصب التركيز على قضايا ومشاكل محلية فقط تهم المجتمع الموجه له الرواية. هنا غردت الكاتبة خارج السرب ورحلت بنا الى مكان بعيد جداً لا يتحدث لغتنا ونسجت لنا حكاية تشعر معها انك تقرأ رواية مترجمة من حيث اسماء الاماكن والشخصيات والبيئة المحيطة.

- الرواية تشمل خط اجتماعي رئيسي ومعه خطوط فرعية مساعدة منها الخيالي ومنها الجريمة. رواية شاملة بمعنى ادق لكن بالطبع هي رواية اجتماعية في المقام الأول.

- تناولت الكاتبة عدة موضوعات شائكة نوعاً بطريقة جريئة خاصة فيما يتعلق بالجانب الديني منها ولم تقدم صورة مثالية لأصحاب دين معين. هي قدمت لك طبيعة بشرية بحتة من خلال شخصيات الرواية لها من المزايا وعليها من المساوىء بشكل عقلاني جداً.

-------------------------

مراجعة الرواية:

هناك نصيحة ذكرها الأديب/ محمد المنسي قنديل تلقاها من الأديب العالمي/ نجيب محفوظ في بداية حياته فحواها " أن على الجيل الجديد توسيع رقعة الأدب الجغرافية ، الخروج من القاهرة المحفوظية بفتواتها وحرافيشها وغوانيها إلى عوالم أخرى واسعة " وهو ما طبقته الكاتبة هنا في تلك الرواية. إذ خرجت خارج حدود الوطن وخارج الهم العام لتكتب رواية بها هم إنساني لا تُقيده جغرافيا الأوطان ، فالأدب في الأصل يهتم بالإنسان في المقام الاول قبل كل شئ.

في هذه الرواية البديعة القائمة على المشهدية السينمائية في بعض المواضع وخاصة في الفصول الأولية تقدم لنا الكاتبة نص ممتع ينقل خلجات النفس البشرية وأزماتها الكبرى ، إذ بدأت الرواية بمشهد سينمائي في المقام الأول. بداية ملتهبة شيقة تأخذك من يدك إلى قلب الحدث لتدفع بك إلى حيرة التساؤلات حيث الجدة والجد والطفلة الصغيرة التي فارقت أمها.

مع الصفحات الأولى من العمل تجد نفسك شريك فاعل في النص ، إذ اختارت الكاتبة طريقة ممتعة في بناء الرواية وتتدفق السرد مع استخدام لغة تناسب بيئة المكان والشخصيات المركبة التي تعاني كل منها أزمتها الخاصة وتعيش ذروة صراعها الداخلي.

للوهلة الأولى ستبدو لك الرواية كأنها نص تم ترجمته فهو في لغته وإن كانت ممتعة وذات بلاغة وفصاحة لكنها تتماشى مع طبيعة النص المختلفة بدءاً من فكرته وموضوعه وصولأ إلى رسم الشخصيات الذي تم بطريقة أقرب إلى الواقعية الشديدة فخرجت الشخصيات ذات طابع حي وحيوي يحمل تناقضات البشر .

- الحبكة:

تحكى الرواية عن ايلينا الطفلة التى فارقتها امها وتركتها لتعيش مع جدتها وجدها ثم تعيش صراعها النفسي الحاد بعيداً عن حنان تحتاجه ويد ترعاها والعديد من القيود التي تفرضها أسرتها عليها لتجد نفسها بين مجموعة من الاختيارات غير المستحبة لها كلها وهو ما يدفعها إلى الحيرة التي اجادت الكاتبة وصفها بمهارة وكيف اختارت ايلينا مصيرها وماذا ستفعل في حياتها. وفي هذا الجزء حملت الرواية جوار المشاعر الإنسانية وصف حالة ايلينا وصوتها الداخلي بطريقة رائعة ولغة مرهفة معبرة عن تلك الحالة شديدة الصعوبة.

انقسمت الرواية إلى قسمين. القسم الأول الذي وقعت أحداثه في البرازيل وهو الجزء الأكثر حيوية ومتعة وإن شابه بعض الإطالة في السرد. نتعرف فيه على معاناة البطلة مع الأسرة ورحلة طفولتنا وشبابها وزواجها.

القسم الثاني والذي اتسم بالتشويق وتدور أحداثه في مصر وفيها بدأت احداث وأسرار الماضي تتكشف أمام ايلينا وعائلتها وأسرار والداها واسلامها وقد كان أكثر سرعة إذ كانت الحبكة قد تصاعدت وبدأ صراع العمل والشخصيات يكون جلياً.

تحمل الرواية العديد من القصص الثانوية والشخصيات الفرعية والتي جاءت حكايتهم أشبه بالقصص القصيرة المتصلة المنفصلة في قلب الرواية وهو ما أثر على الخط الرئيسي للرواية في بعض الأحيان ، غير أن تلك القصص كانت متقنة الصنع وخلقت نوعاً من التنوع بعض الشيء داخل أحداث العمل الطويل نسبيا. في ذلك القسم تكتشف ايلينا سبب مق،تل والدها والأبحاث الغامضة الموجودة والعديد من القصص المتنوعة التي حملت كم من الإثارة وإجابة على تساؤلات البطلة. غير أنه كان من الممكن اختصارها إلى أجزاء أقل وترك مساحة لاحداث انسانية مهمة في النص لم تأخذ حقها الوافي في التقديم مثل موت اسرة ايلينا والبعد الإنساني لهذا الموضوع وتأثيره عليها. هذه نقطة مهمة اغفلتها الكاتبة على حساب تلك القصص وافراد مساحة كبيرة لها.

تحمل الرواية مزيج من المشاعر الإنسانية والكتابة الدافئة جوار عنصر التشويق الذي ساعد في عدم الشعور بالملل من حجم العمل وهو ما اجادت الكاتبة صُنعه وتقديمه خاصة في الجزء الخاص بالبردية الفرعونية وصراع العلماء الأجانب.

السرد والوصف:

النص يحمل صورة بصرية مدهشة ، إذ بدت مشاهد كثيرة أقرب إلى روح وحالة السينما خاصة في قفلات تلك المشاهد ، ولو أن هناك الكثير من التفاصيل والأحداث مرت عليها الكاتبة بسرعة دون أن تفرد لها مساحة تشرح تأثير ووقع تلك الأشياء على أبطال العمل وعلى ايلينا بشكل عام والتى قدمتها الكاتبة بصورة مثالية جدا كانت تحتاج إلى إضافة بعض التفاصيل لها فليس هناك في الأدب أبيض وأسود وإنما الإنسان نفسه خليط من التناقضات.

مواضع قليلة جداً أفلت من الكاتبة زمام الشخصية الرئيسية ايلينا لكن دون تأثير على روح النص وتتابع أحداثه وتدفقها.

بعض من أجزاء العمل اتسم بروح التقريرية والإسهاب لكن ذلك لم يفقد العمل رونقه ، إذ حافظت الكاتبة على تتابع الحبكة وذروتها وعلى جعل الأحداث لاهثة وإن كانت كما ذكرنا سابقاً افردت مساحة لحكايات فرعية على حساب الحبكة الرئيسية.

الوصف في الرواية جاء متفاوت فتارة يرسم الأحداث والأماكن فتارة تشعر أنك تري كل شئ أمامك كأنها صورة حية وتارة أخري يقل الوصف للمكان والصورة ليهتم أكثر بالدواخل وبالمشاعر الإنسانية.

الحوار:

جوار هذا كله نجد قدرة الكاتبة على إجادة فهم شخصياتها ، واختيار الجمل الحوارية الموجزة القائمة على دفع الأحداث وتعريف دوافع الشخصيات وأزماتهم وما يعتقدون فيه.

النهاية:

النهاية جاءت رومانسية سعيدة حالمة وهي نهاية جيدة لا بأس بها لكن سعي الكاتبة إلى عدم خلق نهاية واقعية وإن بدت حزينة جاء على حساب النهاية التي تقبلتها على أي حال لكنها كانت ممكن أن تكون أكثر واقعية من ذلك.

-------------------------

خاتمة:

رواية ممتعة على جميع الأصعدة يشوبها بعض النقاط السلبية فليس هناك عمل أدبي متكامل بطبيعة الحال لكن تلك النقاط لم تفسد متعة القراءة ولا تذوق جماليات النص وخاصة اللغة الجميلة البسيطة والحبكة الجيدة جداً والمختلفة عن السائد والمعتاد.