طالما كنت أرى في الكاتب #عمر_طاهر موهبة غير معتادة في وصف ما يحس ولا نستطيع التعبير عنه، وكرس هو موهبته هذه فيما يمكن أن أصفه بأنه كتابة نوستالجية (من الحنين أو Nostalgia) للحنين إلى الماضي والذكريات بصور مختلفة، وبدا ذلك واضحاً في آخر عملين له #صنايعية_مصـــر و #إذاعة_الأغاني، فكان الأول تمجيداً لراحلين لم تعد حياة المصريين بعدهم مثلما كانت قبلهم، وكان الثاني رسالة حنين إلى ذكريات مرتبطة بالصوت، إلى أن جاء الموهوب عمر طاهر فأتحف قرائه بعمله الأخير #كحل_وحبهان فكان رسالة حنين إلى ذكريات مرتبطة بالمذاق والرائحة.
كحل وحبهان قد يصنفها البعض رواية، ولكنها تحمل ما هو أكبر من ذلك؛ تحمل عرضاً كبيراً لجزء مهمل من ذكرياتنا يقوم في أغلبه على المذاق والرائحة. الكثير منا عندما تسأله عن ذكرياته، تتداعى إلى ذهنه صور فقط، ولكن الحق أن المذاق والرائحة والصوت يشكلان جزء كبير من ذاكرتنا وإن كانوا يخبون بداخلنا مع مضي الوقت ولا يدوم وجودهم بدقة مثل الذاكرة المصورة.
كحل وحبهان حبكتها بسيطة، ولكن سردها سلس وشائق وعظيم، فهي تقوم على خطين سرد متوازيين للراوي – وهو بطل القصة – أولهما وهو بعد طفل صغير يعيش مع أسرته في مدينة نائية عن القاهرة، وثانيهما بعدما أنهى دراسته والتحق بالعمل في القاهرة بعيداً عن أهله.
الخط الأول من السرد يقوم على وعد من البطل لوالده بأن يحاول تقويم سلوكه خلال خمسة أيام، أو سبعة لا أذّكر بالضبط، حتى يوافق والده على أن يذهب بصحبة خاله الشاب الجامعي إلى الحفل الذي يقام في مدينتهم النائية ويحييه المطرب الكبير محمد منير.
لا يخلو سلوك البطل الطفل من مخالفات كبيرة ومتعددة خلال المهلة المتفق عليها، وينتهي الأمر بعلقة ساخنة له من والده يرقد بعدها طريح الفراش فتلوم الأم والجدة (والدة الأب) الوالد على ما فعل فيشعر بالذنب ويسمح أخيراً لابنه بأن يذهب للحفلة الموعودة.
الخط الثاني للسرد يحكي فيه البطل، بعدما نضج، عن علاقة جمعته بإحدى زميلاته في العمل وكيف تطورت من زمالة إلى إعجاب إلى حب ثم زواج، وكيف أن ما جمع البطل بزميلته تلك هو تماثل تجربتهما الوجدانية وتقريباً تطابق نظرتهما للطعام.
من خلال خطي السرد سالفي الذكر، دغدغ الكاتب ببراعة حواس قرائه بوصف أصناف الطعام وكيفية طهيها، وامتلأت صفحات القصة بما يمكن أن أعده عبارات غزل شديدة الفتنة في حب الطعام وكيف أنه يمثل قيمة أكبر من مجرد شهوة ملء البطن .. توقفت كثيرأ أمام عبارات الغزل في الباذنجان والمسقعة والمحاشي والملوخية واللحم.
وليس ذلك فقط، صنع الكاتب من ذلك خليطاً رائعاً من الروائح للأطعمة والتوابل المختلفة كالريحان والزنجبيل والقرفة، أسوق لكم منها هذا الجزء البديع عندما حكى البطل الطفل كيف كان يلعب مع خاله الجامعي لعبة يتخيلون خلالها ما هي رائحة كل شخصية تخطر على بالهم من المشاهير :
((رائحة الزعيم جمال عبد الناصر هي خليط من رائحة السجائر وكولونيا الـ "555" ومعجون الحلاقة الذي يستخدمه أبي.
رائحة عبد الحليم حافظ هي تلك الرائحة العشبية الرقيقة التي تنطلق عقب قص الحشائش وتقليم الأشجار وقصقصة فروعها.
حسني مبارك رائحته صابون التموين "م12" أبو ريحة.
إسماعيل يس رائحته تشبه رائحة رف الشاي والسكر في دولاب خزين جدتي.
أم كلثوم رائحتها قريبة من رائحة الخبز البلدي الخارج حالاً من الفرن.
ريا وسكينة رائحتهما تشبه الرائحة المنبعثة في أعقاب محاولات فاشلة لإشعال وابور الجاز.
أحمد زكي بطل "النمر الأسود" رائحته تشبه خليط رائحة براد شاي يغلي مع رائحة منقد خشب الأشجار المتوهج كالجمر ينام فوقه براد الشاي مائلاً بزاوية.
فريد الأطرش رائحته قمر الدين.
ليلى مراد رائحتها فانيليا.
سعاد حسني رائحتها كراميل محروق.
نادية الجندي لا رائحة لها)).
أحببت كثيراً وصف البطل الطفل لوالده :
((أبي ليس أكولا، لكنه ذواق.
لا يشبه بقية رجال العائلة في علاقتهم بالطعام، يأكل بهدوء وبدون صوت. بخلاف قريب لي يأكل على الجانبين وتنبت في وجهه خلال المضغ بالونتان، واحدة في كل جنب.
لم يحدث يوماً أن توقف عن عادة اقتطاع اقتطاع جزء من أشهى عنصر طبقه ووضعه في طبق أمي. كنت أرى أمي كل مرة على المائدة والقلق في عينيها خوفاً من أن ينسى أبي عادته، حتى يفعلها فتبتسم. بخلاف قريب لي وقف على حافة الطلاق مع زوجته لأنها طهت زوج حمام، فردة لكل واحد منهما؛ اعتبر هذه المساواة إهانة.
سمعته يطلب من أمي ألا تغلق عليها باب المطبخ أثناء الشوي أو التحمير، يقول لها : "رائحة الخير". أعرف قريباً لي يغرق أهل بيته في الفول والطعمية والبصارة لأنه لا يطيق رائحة الطبخ.
مشكلة أبي الوحيدة أن يتحول إلى قط ليلاً، يقوم جائعاً ولا مانع لديه في تناول أي طعام تصل إليه يداه. توقفت أمي عن سلق اللحم في الليلة التي تسبق طهوه، لأن أبي كان يصحو فجراً نصف واعٍ فيلتقط بالوكة من الإناء ما تيسر. تعنفه أمي فيقول : "كنت نائماً". تقول : "نايم إيه ؟ ده أنت مسخن عيش ومطلع علبة الفلفل الأسود من النملية!".
يحب أبي من اللحم الرقبة والموزة، ويحبه صريحاً لم يخضع لإعادة تصنيع، محمراً في الطاسة أو مع الشوربة والثوم في الفرن. ويرفض بقية أشكاله سواء البوفتيك أو الكفتة. لا يؤمن بالمكرونة، ويرى أن البشاميل عك، وإذا صلح الأرز صلحت الوجبة كلها. يبدأ طعامه بأن يضع ملعقة واحدة منه في طبقه، يختبرها بأن يفصل كل حبة عن الأخرى، ثم يتناولها ويمضغها على مهل، فتطل من عينيه درجة الحماس التي سيقبل بها على الأكل.
في ليالي الشتاء كنت أرى جدتي تضع أمامه طبق العدس الأحمر والرغيف الشمسي ومنطال السمن البلدي، وكلما غابت بقعة السمن عن وجه الطبق كانت جدتي تضع له واحدة جديدة.
لديه عادات ثابتة : فص الثوم صباحاً على الريق لتنظيف الشرايين، الشاي بعد الأكل، فاكهة الاستيقاظ من النوم عصراً، والإفطار أربع ملاعق فول مع ملعقة زيت ونصف ليمونة.
هو الذي يشتري اللحم بنفسه، ذهبت معه مرة وحيدة إللى الجزار، وضع كرسياً أمام باب المحل أمام الذبيحة المعلقة، وكان كل قليل يشير للجزار ناحية قطعة معينة : "هات دي .. ودي". سمعته يقول أن الأكلة الأسوأ هي الأكلة "بنت نارين"، نار التسوية ونار إعادة التسخين. ثم إن عمل طبق السلطة حق مكتسب لا يتهاون فيه.
أحب أن أتناول طعامي على مائدة يترأسها هذا الرجل؛ يعرف ما يحبه كل واحد من قطع اللحم أو أجسام الطيور، يقترح حلولاً للشهية الضعيفة، و "خلص طبقك" مسألة حياة أو موت بالنسبة له، لكنني أمتعض كثيراً من اللحظة التي تتحول فيها المائدة إلى مدرسة.
هو يعرف جيداً أن ابنه يمتلك معدة ثور هائج، وأنه لا سبيل إلى ترويضها، فكان الحل بالنسبة له هو تهذيب أخلاق صاحب هذه المعدة.
تعلمت على المائدة أكثر مما تعلمت في مدرسة "الشهيد عبد المنعم رياض الإعدادية للبنين". المزعج أن الدرس كان يبدأ في منتصف استمتاعي بمضغ تركيبة تعبت في إعدادها. يبدأ كلامه فيصبح التوقف عن المضغ إجبارياً للإنصات، أنا الآن جمل يخزن طعاماً ويستمع إلى تعليمات والده :
البطنة تذهب الفطنة يا عبدالله، كل ما تشتهي فقط لأن ما لا تشتهيه هو الذي يأكلك، الشبع يميت القلب، فلتغادر المائدة لا جائع ولا شبعان، صغر القمة، لا تصدر صوتاً، لا تتكلم وفي فمك طعام، لا تنظر إلى طبق غيرك، لا تقم عن الطعام قبل أن نقوم جميعاً، ولا تجلس قبل أن نجلس، لا تضع ملعقتك في الإناء الذي نغرف منه جميعاً، لا تقلب محتويات الإناء قبل الغرف منه، امضغ جيداً، اعزم على ضويفك. كان يقول : "المائدة مرزقة، من كان مضيافاً وسع الله عليه، بيت أنت مدعو إليه لا تقل لصاحبه على المائدة "إديني"، لا تطلب من صاحب البيت إلا اتجاه القبلة".
كرر على وصية طبيب أحد الخلفاء قديماً عدة مرات حتى حفظتها : "لا تأكل من اللحم إلا فتياً، ولا تأكله حتى ينعم. ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها. ولا تأكل إلا ما تجيد مضغه. وكل ما أحببت، واشرب عليه، فإذا شربت فلا تأكل عليه. وإذا أكلت بالنهار فنم، وإذا أكلت بالليل فتمش ولو مائة خطوة".
بداخله فيلسوف لم يحصل على فرصته في ملاعب واسعة، فقرر أن يستعرض مهاراته في الحدود المتاحة على ضيقها، سفرة الطعام مثلاً. أحب نظرياته، وهي بالنسبة لي دائماً موضع تأمل، وكثيراً ما أدونها في هوامش الكتب أثناء المذاكرة : "الكوسة بترضع القلب"، "شوربة العدس كلها مسامير"، "مفيش أكلة لها بيات غير البامية"، " السمك يحب البطيخ"، "الجوافة فاكهة الغلبان"، "اللقمة تعرف صاحبها"، "محدش واخد منها حاجة غير اللقمتين".
اختلى بي في مرة مقدماً درساً خصوصياً، قال لي أنت "تلغ" وتفوتك متع كثيرة :
متعة النظر والاستمتاع بالطعام وألوانه، نسوة المدينة اللواتي قطعن أياديهن، بالبلدي "أكلوا صوابعهم" بعد وجبة انلظر إلى جمال سيدنا يوسف.
متعة الشم، رائحة الطعام الشهي تشبه الأخبار الحلوة، تشبه بشرى باب حظك اليوم الذي تفتح عليه الجرنال كل يوم، خبر سار في الطريق إليك، بهجة انتظاره أحلى منه أحياناً، إثارة مجانية، تشبه إثارة الدقائق التي تقضيها في انتظار أن يبدأ ماتش مهم.
متعة المضغ، ضع حبة أرز فوق لسانك وامضغها، ثم تجول بالطحيم داخل كل نقطة في فمك/ ستستشعر حلاوتها أينما وجهتها. يريد الله منك أن تستمتع إلى أقصى درجة، فوضع ملايين الخلايا العصبية في كل مليمتر فوق لسانك، وحوله، كل واحدة قادرة على الاستطعام، فلماذا تحرمها وتحرم نفسك من هذه السعادة، الاستطعام بهجة عظيمة، والتذوق عبادة.
متعة البلع، أنت ترسل هدية إلى معدتك التي تحبها، تمهل وامنحها فرصة أن تتأمل الهدية، كن كالعاشق الذي يضع الصندوق أمام حبيبته ويرخج لها منه قطعة قطعة، ومع كل قطعة تفرح من جديد، لا تعامل معدتك كبئر تود أن تردمها في أسرع وقت، امنحها فرصة لأن تفرح، وصدقني ستفرح أنت أيضاً.
قال أبي أن التجشؤ متعة، رسالة شكر من المعدة، من بين ما أهديته إليها، تذكرك بأن الهدية الفلانية بالذات قد أعجبتها، وترسل إليك شيئاً من ريحتها)).
بكيت عند مشهد وفاة الجدة :
((في اليوم التالي، وبعد أن نزل أبي، سمعتها تطلب من أمي وكلها رجاء ألا تخذلها أن "عايزة قهوة وسيجارة". قالت لها أمي : "هذا جنون، سيقتلنا زوجي جميعاً إذا عرف"، كررت الرجاء : "معلش ريحيني، ربنا يريح قلبك، هاشرب وش الفنجان ونًفًسين بس، ما تخليش نفسي في حاجة". لا أعرف ما الذي رأته أمي جعلها توافق وهي مليئة بالحزن.
لم يعد أبي يترك سجائره في البيت، اشتريت لها علبة بلمونت، ودخلت عليها أمي بالقهوة. التزمت جدتي بوعدها، وش القهوة ونًفًسين، ثم استرخت في جلستها، وأسندت ظهرها إلى رأس السرير، وعلى وجهها ابتسامة تعصف بقلبي كلما تذكرتها.
سحبت الجدة الراديو، وتنقلت بين المحطات حتى توقفت عند أغنية، وطلبت مني أن "تعالى اقعد جنبي". عند مقطع في الأغنية رأيت وسمعت جدتي تغني لأول مرة طوال حياتي، معها، كانت تغني وتهز رأسها دون أن تفقد ابتسامتها وتردد مع المطرب :
"يا ليل ابعت سلامي للناس الطيبة ..
فكرهم بالمحبة وبأيام الصبا .."
كانت أمي تهوٍي الغرفة، وتشعل البخور في كل مكان خوفاً من أبي.
ليلاً استيقظنا على صوتها وهي تنادي على "كوثر"، كررت النداء بشكل أربكنا جميعا. كانت تنادي على شقيقتها التي لم أرها إلا في الصور. رحلت "كوثر" قبل أن تتم السادسة عشر ، وكان نادراً ما تأتي سيرتها. دخلنا عليها، رأيت أبي يوقظها، تحت عينيها ولم تكن في كامل وعيها، ثم خلدت إلى النوم مجددا.
خرجنا، فجلس أبي على أقرب كرسي لغرفة الجدة وقد اصفر لون وجهه. طلب من أمي أن تحضر له سجائره، وطلب مني أن أعود إلى غرفتي.
نمت واستيقظت في اليوم التالي على الفراق.
لم ينافس حزني عليها سوى حزني على أبي. كان متماسكاً لم يبكِ، لكنه لم يكن ينطق. كانت أمي خوفاً عليه ترجوه أن يفضفض ويحزن ويتكلم، ولكنه استسلم للصمت والسجائر.
بعد أيام كان بشندي حارس مدفن العائلة يزورنا في المنزل وفي يده لفافة، فتحها فوجدنا بداخلها اللوحة الرخامية التي سيتم وضعها على شاهد قبر الجدة. كانت قد أوصته أن يجهزها عندما تٌطلب منه، ويحفر آية قرآنية واسمها وتاريخ ميلادها، ويترك تاريخ الوفاة حتى اللحظة الأخيرة.
كان بشندي يطلب من الأب مراجعة اللوحة قبل تثبيتها. تأملها الأب وقال : "لكن أمي ليست موالد 1926 هي مواليد 1925".
قال الرجل أن الجدة هي التي أملته البيانات. غضب أبي بشدة واعتبر الرجل مستهتراً. قال بشندي: "طيب اتأكد". قال الأب : "مستحيل أغلط في تاريخ ميلاد أمي"، ودخل يفتش على أوراق الجدة بعصبية وهو يسب الرجل ووقاحته. كنا نساعده بتفتيش ضلفة الكومودينو الذي كانت تحفتظ فيه الجدة بأوراقها. عثرت أمي على بطاقة الجدة الشخصية وقدمتها إلى الأب الذي كان يقف في منتصف الغرفة متوتراً، تفحصها فارتبك.
وضع أبي البطاقة في جيبه واختل توازنه قليلاً. أمسكته أمي من ذراعه، قال : "بشندي صح". جلس على حافة الفراش يكررها في أسى، كان نحيبه في البداية صامتاً، وما إن وضعت ابتسام (الأم) يدها فوق ظهره حتى انفجر وبدأ يبكي أمه بحرقة)).
أعجبني جداً اختيار صورة الفنانة الجميلة مديحة كامل لتوضع على غلاف الرواية، فهي رمز حي للجمال الذي تحدثت عنه الرواية، وإن لم يرد ذكرها في الأحداث سوى مرة واحدة عندما حكى البطل أن أمه ابتسام كانت تضع صورتها في المطبخ بمنزل الأسرة.
الرواية حميمية جداً كأغلب أعمال الكاتب، وجعلتني أركز بشكل مختلف في الروائح والمذاقات التي تمر عليَ خلال يومي، وبسببها أصبحت أنظر للطعام بنظرة مختلفة بها مزيد من الحب والإعجاب، ورغم أني لست من هواة قراءة العمل الواحد أكثر من مرة إلا أن هذه القصة استثناء ويجب قراءتها مرات عديدة لاجترار جرعة السعادة والبهجة التي خلفتها في حلقي بعدما انتهت بغتة.
أحببتها كثيراً، وأٌقيمها بخمس نجوم.