احتمالات لا نهائية للغياب > مراجعات رواية احتمالات لا نهائية للغياب > مراجعة Mahamed Hesham

احتمالات لا نهائية للغياب - آية طنطاوي
تحميل الكتاب

احتمالات لا نهائية للغياب

تأليف (تأليف) 3.9
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

احتمالات لا نهائية للغياب/ الجمال

- ما أن تأخذ قرارًا بالبدء في قراءة قصص هذه المجموعة – وهو القرار الذي ستدرك متعته وجماله أثناء قراءتها- حتى تجد نفسك داخل احدى عربات الترحيلات. أطمن أنت لم تفعل أي شيء، لم ترتكب أي جرم، كما هو حال النساء المتورطات داخل ذات العربة، هن أيضًا لم يفعلن أي شيء ولم يعلمن لماذا وكيف جئن إليها، لماذا تلك الحبسة وإلى أين تتجه هذه العربة التي تسير في طريق لا ينتهي، لا يعلمن أيضًا عن بعضهن أي شيء. لكنك على مدار قصص المجموعة ستعلم قصصهن وحكايات ومصائر بعضهن، ذلك المصير الذي يتشاركن فيه؛ الغياب. ستدرك أيضًا أن تلك العربة وذاك الطريق الذي تسير فوقه، ما هو إلا مجرد زمن سرمدي، لا بداية ولا نهاية له، تبدأ في احدى لحظاته الحكاية ولا تنتهي أبداً.

" انقضى النهار الغائم وحلَّ الليل، انتهت شوارع المدينة، اخترقت العربة الأراضي الزراعية والطرق الصحراوية، وسائق العربة مندفع بالسرعة ذاتها، لا يقف لشربة ماء، لا يلتفت لهن، يحتجزهن دون سبب، يفصل بينه وبينهن الحديد، قطع بهنَّ أميالاً دون استراحة، طاف بالميادين، عبر الحدود، وابتلعهن الطريق الطويل في اتجاه واحد، ذَهَاب، إلى المنتهى، بلا عودة."

- تمتلك "آية طنطاوي" موهبة كبيرة في التقاط التفاصيل -التي تبدو صغيرة- لتصنع منها عالمً كبيرًا. وتمتلك أيضًا من المهارة والذكاء في الكتابة، ما يجعلك تدرك معاني ومستويات متعددة للجمال أثناء قراءة ما تكتُبه. بالإضافة إلى جمال اللغة والصورة والتركيز على المشاعر التي تحرك أبطال القصص، ثمة مستوى أخر من المتعة، متعلق باللعبة التي تتعمد أن تشرك – أو تورط- القارئ فيها. فتستمتع ببناء وتشيد العالم المكون لقصص المجموعة، هذا الترابط الواضح بينهم جميعًا، الذي يجعلها تبدو وكأنها قصة واحدة تدور في مكان/ حي واحد لم تختلف مصائر أبطاله/ سكانه على طول الحكاية. بالتفاصيل الصغيرة التي قام عليها ذلك البناء المحكم لهذا العالم، لتلتقطها أثناء القراءة وأنت تسير بداخله. فمثلا في القصة الثانية " باب الأساطير: فصل موال النهر"، يتداخل صوت الكاتبة مع صوت الراوي، تُشكك في سارد الحكاية، في أصلها من الأساس، في انحيازات راويها، لتشعر وكأنك تسمع إحدى حكايات السير الشعبية التي تتحدث عن النهر الباكي لما حدث له، عن الحكاية التي بدأت وانتهت عنده، عن الجرح الذي بدأ نزفه في ذلك الحي ولن ينتهي.

- ترتبط جغرافيا المكان لباقي قصص المجموعة مع ذلك النهر؛ الذي فسد بدماء وملح نساء الحي واختفى، جَفَّ، أصبح أسطورة، ذكرى تتناقلها الحكايات والأجيال؛ غاب هو الأخر مثلهن جميعًا. ليس النهر وحده الذي تستخدمه "آية" لربط حكايات أبطالها المشتركات في المصير ذاته، لكن الجبل/ المقام/ المطر/ الصحراء. لا يوجد أي حضور لأي شيء في ذلك المجموعة من قبيل المصادفة، لكنه يتم توظيفه واستخدامه بعناية وذكاء شديد من قصة لأخرى.

- الغياب، تيمة المجموعة؛ ذلك الحاضر في كل قصصها، لكن يختلف معناه وأسبابه وتأويله من قصة لأخرى تبعًا لعالم كل قصة، فمرة يظهر كفعل مقاومة كما في قصة "مقام خضرا عطية"، ومرة يصير الغياب غدرًا وانتقامًا "باب الأساطير: فصل موال النهر"، ومرة يصير حزنًا كما في قصة " يموت مرتين" وهكذا في كل كرة. كما أن الغياب لا يقتصر على الأشخاص فحسب، فالأحلام تغيب، البريق الذي قد يلازمنا طويلاً أيضًا يخفت ويغيب، الأحلام كذلك، وأيضًا يمكن أن يكون الغياب للأموات؛ فالجدة التي يختفي رفاتها بعد سنوات من دفنها بجوار قبر زوجها، تختفي/تغيب هي الأخرى لأنها لم تجد الراحة في دفنها جوار زوجته الأولى فتقرر الرحيل والغياب. وهكذا تظل قصص المجموعة تتأرجح في المعاني والدوافع للغياب، وأيضًا على مدار القصص تختلف رؤيتنا لكل قصة تبعًا لزاوية السرد، فمرة تقرر الكاتبة أن تشاركنا مع أبطالها في معرفة سبب الغياب، مرة أخرى تُظهر أثره النفسي فتجد نفسك تتحرك رفقة مشاعرهن. ومرة أخرى نكون رفقة الغائبين في رحلة غيابهم.

- لا تتبع قصص المجموعة طريقة واحد للسرد، ولا حكي الحكاية بصوت واحد من نفس المنظور والرؤية، لكن تتنوع القصص والأصوات في كل قصة، بل تتنوع أحياناً في القصة الواحدة، فحينا يسرد الراوي العليم، ثم تُحكى الحكاية من الأبطال، ثم يأتي صوت يشكك في الحكاية والراوي، وهكذا تمضي القصص – والقارئ معها- في هذا العالم من الشك واليقين، التعاطف والغضب، الحب والشجن.

- احتمالات لا نهائية للغياب/ للجمال مجموعة قصصية شديدة الجمال والذكاء والحساسية، تظهر قدرة "آية طنطاوي" على التقاط العادي والتفاصيل الصفيرة لتصنع منها قصص وعالم شديد الخصوصية بها، وتظل جغرافيا المكان - في هذه المجموعة ومجموعتها الأولى- جزء مميز ولصيق الصلة بالعالم الخاص بها. بالأبطال الذين يسكنون بداخلها، جزء من ذاكرتها وحكايتها قائمان على ذلك المكان الخاص بها، فليس الأشخاص وحدهم هم أبطال قصصها وعالمها وحكاياتها. بل المكان أيضًا بطل خاص بها، تجعلك تراه مثلما هو موجود داخل ذاكرتها هي فقط.

من المجموعة:

"هكذا كنا، أنا وهي، دائرة متصلة من الأسئلة والمشاعر الصامتة والمشاوير غير المكتملة، فأجوب الدنيا معها ولا أبالي، والدنيا هي حدود حَيَّنا الذي يبدأ بالبيوت وينتهي بطريق الجبَّانة والجبل، وكل شيء مع مرور السنين يزداد ضيقًا، وفي نهاية المطاف عرفت أن الإجابات لا تضع لمشاعري نحوها نهاية، وأن كل الأسئلة لن تردَّ الغائب ولن تداوي خصومة قلبي مع غيابها، وأن خضرا عطية التي تحفظ الأسرار وتجيب الدعوات وتستقبل النُّذُور والعطايا قُطع دابرها فاهتزَّت قبتها الشامخة أمام الرجال فماتت مرتين، وعرفت أني مازلتُ ضعيفة الحال لا أملك قوةً ولا حَولاً. استسلمتُ للقدر المكتوب، وبكيتُ على خضرا عطية بكاءً لم أجهش به يومَ غابت أمي، وعرفت أن كلهم يرحلون ونحن مَن يدفع الثمن، وفي النهار سمعنا صوت الهدم يدوَّي من بعيد، كهزَّة أرضية عنيفة، تسقط حجارة المقام ويُنزع عنه الحديد، أما أحجار قلبي فلم تخرج ولم تَذُوب."

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق