احتمالات لا نهائية للغياب

"احتمالات لا نهائية للغياب.. البحث عن المفقود بين الماضي والحاضر"

نعيش حياتنا بتفاصيل قابلة للتجزئة على الدوام: تجزئة المال، والوقت، وكذلك البشر. نقابل فرحة انتصار صغيرة مقابل حزن انتكاسة، خليط بين الفرص الآتية والراحلة، والبشر الحاضرون والغائبون، وما بين الحضور والغياب نتشبث بطرف أمل هاربين من لدغات الخوف والمجهول.

في هذه القصص نرى عدة غائبين: نساء، ورجال، منهم أحياء ومنهم أموات، غائبون وفي ذات الوقت حاضرون، إما بأجسادهم أو بصور أخرى مشابهة تكمل مسيرة من يُفارق الجموع ويبقى وحيدًا.

جمعت هذه النصوص مشاعر شديدة الحسيّة والعمق بلغة ثرية، وبتفاصيل بسيطة استطاعت التوغل في أعماق النفوس بكثير مما يشغلها؛ لتخرج لنا صفحات غامرة بفن مؤثر وحوارات داخلية تتصاعد مع كل قصة.

تبدأ المجموعة بقصة "عربة ترحيلات" ومكانها موفق للغاية؛ لما تحمله من روح تمهيدية لباقي النصوص، واستحضار بيئة جديدة، مع نساء تعرضوا للفراق بآلامهم وآمالهم.

كنت أظن مع بدايات القصص أنها ستتناول النساء فقط، لكن رأيت تناول الغياب شمل الإنسان ذاته: بوجوده، وتأثيره، وحبه، ونفوذه، فماذا يفقد الإنسان عندما يغيب داخل عالمنا أو ينتقل لعالم الموت؟!

أكثر النصوص تأثيرًا في وجداني من هذه المجموعة هو نص "باب الأساطير: فصل موال النهر"، نص بديع في كل تفاصيله، آلام الخيانة والاضطهاد، الخوف من المجتمع والفرد، سريان النهر الذي ماؤه طاهر بصفائه ونجس بدمائه ونفوس البغض والغل، عشت مع هذا النص حالات من الترقب والقلق والتفكير، تُرى كم من مشكلات وأفكار وأحباب لا نلتفت إليهم سنوات ولا نفعل سوى إلقائهم في نهر يجرف نفوسهم بدم بارد؟!

ومن النصوص المؤثرة "يموت مرتين"، معاناة أُم في البحث عن ابنها الشهيد، أو أبنائها الشهداء، أو كل ما غاب وفقدته، لم يعد لكل هؤلاء وجود ورحلة البحث عنهم تستمر، ما بين تكذيب بحكايات، أو تخويف من اللعنات.

نص آخر يحمل سجالًا تشويقيًا مجتمعيًا غرائبيًا هو "يقظة من حلم" وفي رأيي هذا النص تحديدًا يصلح لرواية ساحرة بين الواقع والخيال بلغة فنية سينيمائية، وبدوافع كثيرة من الانتقام الداخلي وردود الأفعال الخالدة. يرى رجل امرأة في حلمه ولا يشعر بالراحة إلا عندما أن يقرر التخلص منها ويحمل سكينًا، ثم ننتقل لعالم المرأة بين الحلم والواقع والخيال، مع كتابة بعناصر سينيمائية مختلفة، أضفت على هذا النص هوية مختلفة لها عنصر تشويقي مميز وتساؤلات تمتد بعد نهايتها.

كل نصوص المجموعة مميزة لكن آخر نص أريد الحديث عنه هو "انحصار" ، أعجبني للغاية حالة التناقض بين الفرح والموت، وزحام البشر الذي لا يفرق بين موت وحياة، نبوءة حلم قد تغيّر كل شيء، والإيمان بالغائب قد يدمر كل بهجة الواقع.

هناك سمات معينة استمرت على مدار كل النصوص، فأعجبني للغاية أن المجموعة القصصية رغم اختلاف حكاياتها وشخصياتها إلا أن لها روح واحدة، تصل بين أفكارها بشكل خفي وباحترافية شديدة، والاعتماد على تفاصيل بسيطة كالقهوة الشعبية، والمقام، والنبوءة، واللعنة، كلها تفاصيل واحدة لكن وظفت مع القصص بشكل بارع خلقت وحدة وتكاملًا إلى جانب تنوع دواخلها وأعماقها.

مجموعة قصصية غاية في الثراء، ممتعة لأقصى درجة، رغم قلة صفحاتها إلا أن اختزالها وتكثيفها يهدي جرعات فنية عالية تحتاج إلى تأمل ورؤى عديدة، فهذه قصص بمثابة فرص لمتعة خيالية جوهرها جذور الواقع، استطاعات أن تنسج هذا المزج ببساطة وروعة، كانت رحلات بحث صادقة في الوصول للحقيقة، فوصلت للقلب بكل صدق وجمال.

ما هذا الجمال!

احتمالات لا نهائية للغياب/ الجمال

- ما أن تأخذ قرارًا بالبدء في قراءة قصص هذه المجموعة – وهو القرار الذي ستدرك متعته وجماله أثناء قراءتها- حتى تجد نفسك داخل احدى عربات الترحيلات. أطمن أنت لم تفعل أي شيء، لم ترتكب أي جرم، كما هو حال النساء المتورطات داخل ذات العربة، هن أيضًا لم يفعلن أي شيء ولم يعلمن لماذا وكيف جئن إليها، لماذا تلك الحبسة وإلى أين تتجه هذه العربة التي تسير في طريق لا ينتهي، لا يعلمن أيضًا عن بعضهن أي شيء. لكنك على مدار قصص المجموعة ستعلم قصصهن وحكايات ومصائر بعضهن، ذلك المصير الذي يتشاركن فيه؛ الغياب. ستدرك أيضًا أن تلك العربة وذاك الطريق الذي تسير فوقه، ما هو إلا مجرد زمن سرمدي، لا بداية ولا نهاية له، تبدأ في احدى لحظاته الحكاية ولا تنتهي أبداً.

" انقضى النهار الغائم وحلَّ الليل، انتهت شوارع المدينة، اخترقت العربة الأراضي الزراعية والطرق الصحراوية، وسائق العربة مندفع بالسرعة ذاتها، لا يقف لشربة ماء، لا يلتفت لهن، يحتجزهن دون سبب، يفصل بينه وبينهن الحديد، قطع بهنَّ أميالاً دون استراحة، طاف بالميادين، عبر الحدود، وابتلعهن الطريق الطويل في اتجاه واحد، ذَهَاب، إلى المنتهى، بلا عودة."

- تمتلك "آية طنطاوي" موهبة كبيرة في التقاط التفاصيل -التي تبدو صغيرة- لتصنع منها عالمً كبيرًا. وتمتلك أيضًا من المهارة والذكاء في الكتابة، ما يجعلك تدرك معاني ومستويات متعددة للجمال أثناء قراءة ما تكتُبه. بالإضافة إلى جمال اللغة والصورة والتركيز على المشاعر التي تحرك أبطال القصص، ثمة مستوى أخر من المتعة، متعلق باللعبة التي تتعمد أن تشرك – أو تورط- القارئ فيها. فتستمتع ببناء وتشيد العالم المكون لقصص المجموعة، هذا الترابط الواضح بينهم جميعًا، الذي يجعلها تبدو وكأنها قصة واحدة تدور في مكان/ حي واحد لم تختلف مصائر أبطاله/ سكانه على طول الحكاية. بالتفاصيل الصغيرة التي قام عليها ذلك البناء المحكم لهذا العالم، لتلتقطها أثناء القراءة وأنت تسير بداخله. فمثلا في القصة الثانية " باب الأساطير: فصل موال النهر"، يتداخل صوت الكاتبة مع صوت الراوي، تُشكك في سارد الحكاية، في أصلها من الأساس، في انحيازات راويها، لتشعر وكأنك تسمع إحدى حكايات السير الشعبية التي تتحدث عن النهر الباكي لما حدث له، عن الحكاية التي بدأت وانتهت عنده، عن الجرح الذي بدأ نزفه في ذلك الحي ولن ينتهي.

- ترتبط جغرافيا المكان لباقي قصص المجموعة مع ذلك النهر؛ الذي فسد بدماء وملح نساء الحي واختفى، جَفَّ، أصبح أسطورة، ذكرى تتناقلها الحكايات والأجيال؛ غاب هو الأخر مثلهن جميعًا. ليس النهر وحده الذي تستخدمه "آية" لربط حكايات أبطالها المشتركات في المصير ذاته، لكن الجبل/ المقام/ المطر/ الصحراء. لا يوجد أي حضور لأي شيء في ذلك المجموعة من قبيل المصادفة، لكنه يتم توظيفه واستخدامه بعناية وذكاء شديد من قصة لأخرى.

- الغياب، تيمة المجموعة؛ ذلك الحاضر في كل قصصها، لكن يختلف معناه وأسبابه وتأويله من قصة لأخرى تبعًا لعالم كل قصة، فمرة يظهر كفعل مقاومة كما في قصة "مقام خضرا عطية"، ومرة يصير الغياب غدرًا وانتقامًا "باب الأساطير: فصل موال النهر"، ومرة يصير حزنًا كما في قصة " يموت مرتين" وهكذا في كل كرة. كما أن الغياب لا يقتصر على الأشخاص فحسب، فالأحلام تغيب، البريق الذي قد يلازمنا طويلاً أيضًا يخفت ويغيب، الأحلام كذلك، وأيضًا يمكن أن يكون الغياب للأموات؛ فالجدة التي يختفي رفاتها بعد سنوات من دفنها بجوار قبر زوجها، تختفي/تغيب هي الأخرى لأنها لم تجد الراحة في دفنها جوار زوجته الأولى فتقرر الرحيل والغياب. وهكذا تظل قصص المجموعة تتأرجح في المعاني والدوافع للغياب، وأيضًا على مدار القصص تختلف رؤيتنا لكل قصة تبعًا لزاوية السرد، فمرة تقرر الكاتبة أن تشاركنا مع أبطالها في معرفة سبب الغياب، مرة أخرى تُظهر أثره النفسي فتجد نفسك تتحرك رفقة مشاعرهن. ومرة أخرى نكون رفقة الغائبين في رحلة غيابهم.

- لا تتبع قصص المجموعة طريقة واحد للسرد، ولا حكي الحكاية بصوت واحد من نفس المنظور والرؤية، لكن تتنوع القصص والأصوات في كل قصة، بل تتنوع أحياناً في القصة الواحدة، فحينا يسرد الراوي العليم، ثم تُحكى الحكاية من الأبطال، ثم يأتي صوت يشكك في الحكاية والراوي، وهكذا تمضي القصص – والقارئ معها- في هذا العالم من الشك واليقين، التعاطف والغضب، الحب والشجن.

- احتمالات لا نهائية للغياب/ للجمال مجموعة قصصية شديدة الجمال والذكاء والحساسية، تظهر قدرة "آية طنطاوي" على التقاط العادي والتفاصيل الصفيرة لتصنع منها قصص وعالم شديد الخصوصية بها، وتظل جغرافيا المكان - في هذه المجموعة ومجموعتها الأولى- جزء مميز ولصيق الصلة بالعالم الخاص بها. بالأبطال الذين يسكنون بداخلها، جزء من ذاكرتها وحكايتها قائمان على ذلك المكان الخاص بها، فليس الأشخاص وحدهم هم أبطال قصصها وعالمها وحكاياتها. بل المكان أيضًا بطل خاص بها، تجعلك تراه مثلما هو موجود داخل ذاكرتها هي فقط.

من المجموعة:

"هكذا كنا، أنا وهي، دائرة متصلة من الأسئلة والمشاعر الصامتة والمشاوير غير المكتملة، فأجوب الدنيا معها ولا أبالي، والدنيا هي حدود حَيَّنا الذي يبدأ بالبيوت وينتهي بطريق الجبَّانة والجبل، وكل شيء مع مرور السنين يزداد ضيقًا، وفي نهاية المطاف عرفت أن الإجابات لا تضع لمشاعري نحوها نهاية، وأن كل الأسئلة لن تردَّ الغائب ولن تداوي خصومة قلبي مع غيابها، وأن خضرا عطية التي تحفظ الأسرار وتجيب الدعوات وتستقبل النُّذُور والعطايا قُطع دابرها فاهتزَّت قبتها الشامخة أمام الرجال فماتت مرتين، وعرفت أني مازلتُ ضعيفة الحال لا أملك قوةً ولا حَولاً. استسلمتُ للقدر المكتوب، وبكيتُ على خضرا عطية بكاءً لم أجهش به يومَ غابت أمي، وعرفت أن كلهم يرحلون ونحن مَن يدفع الثمن، وفي النهار سمعنا صوت الهدم يدوَّي من بعيد، كهزَّة أرضية عنيفة، تسقط حجارة المقام ويُنزع عنه الحديد، أما أحجار قلبي فلم تخرج ولم تَذُوب."

احتمالات لا نهائية للغياب مجموعة قصصية للكاتبة آية طنطاوي صادرة عن دار العين.

المجموعة من ترشيح الكاتب Mohammad Aly Ibraheem الذي أشاد بقلمها .

عشر قصص لعشر سيدات من حي واحد وراء سور مجري العيون بمصر القديمة، تجمعهن صفة واحدة وهي صفة الغياب والهروب من الحي، لكن لكل سيدة قصتها الخاصة بها، هل غيابهن له علاقة بمقام السيدة خضرا ؟ أم له علاقة بلعنة أصابت الحي؟ هذا ما أثار استياء الأهالي بعد الغياب . لم تجتمع السيدات في زمن واحد بل كل سيدة كانت في زمن خاص بها ومع ذلك خرجت من الحي بلا عودة، لكن هل صمت أهل الحي على ذلك؟ أم أصبحت حكايتهن على كل لسان وكل مقهي وكل بيت وكل تجمع يحدث في الحي.

مجموعة قصصية أكثر من رائعة، أكثر ما أعجبني هو لغة الكاتبة وطريقة سردها للأحداث لن تشعرك بالملل ولو للحظة. برشحها لمحبي القصص القصيرة.

#احتمالات_لا_نهائية_للغياب

#آية_طنطاوي

#ترشيحات_منى_منصور

تقريبا انا قررت اكتشف القصص القصيرة في ٢٠٢٤ ولحد دلوقتي دي أكتر مجموعة قصصية شدتني وعجبتني جدا 🤩🤩

طريقتها في الوصف معبرة جدا، بترسم المشهد كأنه كدر سينمائى قدام عينين اللي بيقرأ، واللغة سلسة وإن كانت مش بسيطة خالص.

بالنسبة لي أكتر قصة عجبتني هي "يقظة من حلم"، دي كانت أكتر واحدة مؤثرة بالنسبة لي ولما كنت بقراها ماكنتش مصدقة الفكرة جت ازاي بجد، لا فعلا شابو شابو 😍😍

#احتمالات_لا_نهائية_للغياب