مائة عام من العزلة > مراجعات رواية مائة عام من العزلة > مراجعة هدى يحيى

مائة عام من العزلة - غابرييل غارسيا ماركيز, سليمان العطار
أبلغوني عند توفره

مائة عام من العزلة

تأليف (تأليف) (ترجمة) 4
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

شعـــــورك بالعجـــــز

هذه هي مشكلة الرواية الكبرى

أنت في حال من الافتنان والنشوة لا يوصف

وانعقاد لسانك يسبق أفكارك

ويبقى بداخلك صراع دائم

يتجسد في محاولات مضحكة للتعبير عن هذه المتعة

لذا كنت احاول مراراً خلق التعبيرات المناسبة فأجدها تخرج لسانها في سخرية تاركة إياي في حيرة وقلة حيلة

عندما أمسكت بهذه الرواية لأول مرّة شعرت بانفصال تام عن الواقع من حولي

وجدتني بداخل ماكوندو حيّة أتنفس وأرى الشخصيات من حولي تتصارع مع حيواتها كما أراد لها خالقها العبقري

أنا كنتُ هناك ولا أبالغ بحرف

حلّقتُ بخفة بين موجات الحر العنيفة

أحسستُ بكل شهقة وبكل قطرة عرق

ذبتُ بين شقوق الجدران و داعبتُ الفراشات الصفراء

وهكذا نالت الرواية مني ثلاث قراءات في أوقات مختلفة

وكل مرة كان يلتصق بي بعض من هذا العالم

وهذه المرة

شعرتُ بكل ما هو حي وحقيقي بداخلي ينفصل عني ليحلق وحده بعيداً

بعيداً عن كل ما تحطم بداخلي ‏،وكل ما مزقته السنون في ماكوندو

مزجت العالمين معاً في مخيلتي وتمازجت الأوجاع ببعضها

من يستطيع التناغم مع العزلة أكثر من فرد معزول عن العالم في بقعة صغيرة من السكون؟

عشتُ العزلة أغلب سنوات عمري

أقلّب فتافيت عالمي بملعقة

تطاردني كل أفكار الدنيا ،وأنا معزولة بين جدران لا أريد مفارقتها

كانت خلاياي تناضل لتبقى وحيدة في عالم أراني لا أنتمي إليه

بداخلي أقمت مدناً لا يسكنها سواي

حدائق أزهارها لا تنتمي لتراب هذه الأرض

عانقتُ كل ما هو ذي معنى وتركتُ اللامعنى خارجاً يداعب ألوف من البشر يومياً

كيف يمكن لعائلة أن تناسبني أكثر من عائلة بويندياالضاربة بجذورها ف ي عزلة الروح ‏والجسد؟

لأنه مقدراً لمدينة السراب أن تذورها الرياح وتُنفى من ذاكرة البشر

في اللحظة التي ينتهي فيها أورليانو بوينديا من حلّ رموز الرقاق

وأن كل ما هو مكتوب فيها لا يمكن أن يتكرر منذ الأزل إلى الأبد

لأن السلالات المحكومة بمئة عام من العزلة ، ليست لها فرصة أخرى على الأرض

ما الذي فعله ماركيز بي؟

كيف أنتج عالماً كاملاً بين دفتي كتاب ،وأتقن صنيعته إلى هذا الحد؟

و استطاع ببضع أسماء أن يخلق تجانساً في الشكل والملامح

في الخواطر والأحلام

في قرارات الحياة

وفي المصير المؤلم

وفي نفس الوقت خلق الاختلاف يداعب التجانس خطوة بخطوة ويتمرد عليه

فصاغ أبطاله بحرفية صياغة الكولونيل أورليانو لأسماكه الذهبية

كنتُ أتخيل ماركيز يجلس منعزلا في غرفة

يمسك بشخصياته كما يمسك الكولونيل بسمكاته‏

يعجنها بيديه ويشكل أوهامها وحقيقتها بمهارة ‏

يضيف لماسته المموهة ببصمته

كما يلصق أورليانو عيون السمك الياقوتية فتتوهج الملامح في روحك

وعندما يكتمل عددها يصهرها من جديد كي ينتج جيلاً جديداً يحمل نفس الإسم والملامح بطعم ‏ومصير مؤلم جديدين

‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘‘

بين تعسّف آمارانتا وحزنها المذعور، وصلف فرنادنا وأطباءها المتخيلين

وبراءة ريميديوس الطفلة ودماها ، و قسوة أركاديو التي طاردته منذ اللحظة التي رأى فيها عملية إعدام

وصلابة أورسولا وعزيمتها المثيرة للإعجاب

تعيش لحظات سحرية لا معقولة

لاشيء فيها بلونٍ واحد ولا يعرف حدة الأبيض أو الأسود

فقد يأتي العذاب من الجمال الباهر والسذاجة بطريقة لا تتوقعها إلا مع وحشية القتال ودمويته

فريميديوس الجميلة تأتي في وسط الرواية مثل كائنٍ بلوري شفاف

تقترب منه مبهوراً بلئلائه

فتعانق جبلاً جليدياً تتجمد معه حتى الموت

أو كتلة زجاجية صافية بريئة تمزق لحمك وتتشرب دمك حتى الموت

مثل الجليد الذي بقى يطارد روح الكولونيل أورليانو

ومثل شبح ذيل الخنزير الذي ظل يحوم حول البيت الكبير حتى تمكن منه

لينبعث منها أنفاس موت ، لا لفحات حب

وتنتهي محلقة مع ملاءات البيت إلى السماء في طبقات الهواء العليا حيث لا تستطيع الوصول إليها أعلى طيور الذاكرة تحليقاً

مين أين يبدأ السحر هنا؟

هل رأى ميلكاديس قدر العائلة أم خطه هو بيديه؟

هل تشوف الحوادث العجيبة في بللورته السحرية أم كانت لعنة تلك التي أطلقتها تعاويذه عبر رموزها السنسكريتية؟

كيف فعلها ميلكاديس بين مواقد المخبر وفقاعات التجارب في القوارير وأزيز غليان الزئبق؟

وكيف نشأت ماكوندو حقاً؟

أهي صُممت بعرق خوسيه الأكبر وكفاح أورسولا أم نشأت بين أبخرة مخبر بدائي قدّر له أن يكون المبتدى منه وإليه المنتهى؟

من أين جاءت هذه العائلة التي يولد طفلها الأول بين المستنقعات

بدون ذيل خنزير وبرغبة أبدية في الجنون

ليشهد بداية ماكوندو

ويولد طفلها الأخير بين أنقاض البيت وسط الحشرات ولفحات الحر الأخيرة

بذيل خنزير من حبٍّ حرام

كي تتحقق النبؤة

وكي يموت الجنون فيه قبل أن يبدأ

ليشهد نهاية ماكوندو

وفي جو يشبه المستنقعات تسقط أوراق ماركيز الحاملة الرواية المنقحة في الوحل كي تعود لتجففها زوجته ورقة ورقة

تراها أكانت لعنة ميلكاديس لحقت بها؟

!

خاض الكولونيل أوريليانو بوينديا 32 حرباً أهلية خسرها جميعاً

ومن خلال كفاحه المكلل بخيبة الأمل

وإدراكه في النهاية أنه خاض تلك الحروب لينتهي منعزلاً أكثر مما كان ساخطاً على العالم وعلى نفسه

وعلى كل فكرة بدأت نبيلة وانتهت محطمة بوحشية الدم وشهوة السلطة

و ماركيز كان دوما مناهضاً لجميع الممارسات القمعية لدكتاتوريات العالم ودكتاتورية أميركا اللاتينية بشكل خاص ، ومؤيداً لثورات التحرر

وقد خاض جده حروباً في أمريكا اللاتينية ، وكان ميلاد ماركيز يوافق سنة مذبحة إضراب مزارع الموز والتي أنكرتها الحكومة فأعاد إحياءها في الرواية

*-*

"يقول ماركيز "الخيال هو تهيئة الواقع ليصبح فناً

تنتمي هذه الرواية لنوع أدبي يسمّى

magical realism

وفي هذا النوع يسري الخيال محلقاً في بيئة واقعية بحيث يشكل جزءاً طبيعياً منها

حيث يقوم حدث شديد الغرابة بغزو حياة منطقية واقعية

وإن كان المؤلف قد وصف روايته بأنها تنتمي لأدب الهروب من الواقع

كثيرة كانت الرموز الممزوجة بالخيال في الرواية

فبين السفينة الغارقة ، ووحل المستنقعات ، وشجرة كستناء صبور

وبيانولا ترقد في الظلام تصاحبها ملاءة بيضاء

عاش الأبطال حيواتهم العجيبة في عزلة أبدية تحتضن برفق هذه الصور في دواخلهم إلى الأبد

أكثر ثلاث مشاهد تغلغلوا إلى روحي ألماً

آمارنتا تضع يدها في في جمر الموقد إلى أن تألمت إلى حد لم تعد تشعر معه بالألم

ليبقى لحمها المحروق وضمادة الشاش السوداء في ذهني طوال الرواية يطاردني

*

*

لحظة إطلاق النار على ماوريسيو بابيلونيا وكأنني أنا التي أنهار في غرفة نوم ميمي

*

*

ولحظة اكتشاف آخر أورليانو من السلالة الوليد يتحول لجلد منفوخ بعد التهام النمل الأحمر إياه‏

بين صفحات الرواية قضيتُ وقتاً لا يضاهى

أقرأ ملحمة من أعظم ما كُتب على مر العصور

عن مدينة نبتت في الوحل وغاصت فيه مجدداً

لتتركني مع آخر صفحة أود العودة إليها من جديد

كي أتمتع بهذا العالم الخرافي حتى الثمالة

لتذروه الرياح مجددا ،ويختفي من ذاكرة البشر

ثم يعود نابضاً في صفحات ماركيز

فتتشربه ذاكرة القراء إلى الأبد

Facebook Twitter Link .
3 يوافقون
2 تعليقات